[وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: [عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح.
] .
هذا الحديث الذي يسوقه النووي رحمه الله في هذه المجموعة المباركة عن الصحابيين الجليلين رضي الله تعالى عنهما أبي ذر ومعاذ بن جبل.
أما أبو ذر فتقدمت الإشارة إلى ترجمته بإيجاز وذكر قصة إسلامه وقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم مكة، ثم مجيئه إلى المدينة، ثم ما كان من أمره، وسفره إلى الشام، واختلافه مع معاوية رضي الله تعالى عنهما، وإقامته بالمدينة، ثم طلبه من الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه الاعتزال، وذهابه إلى الربذة، وبقي بها إلى أن وافاه أجله رضي الله تعالى عنه، وصدُق فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث يوم القيامة وحده) .
أما معاذ بن جبل فهو الأنصاري الخزرجي البدري، جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (معاذ أمام العلماء يوم القيامة برَتْوَة) أي: يتقدمهم برمية حجر.
وقال عنه صلى الله عليه وسلم في مجموعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم مبيناً خصائص بعض أصحابه: (أرحم هذه الأمة بأمتي أبو بكر رضي الله عنه، وأشد هذه الأمة في الله: عمر، وأشد الناس حياءً عثمان، وأعرف الناس بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة) وهكذا ذُكر مع هؤلاء الأكارم.
كما قال صلى الله عليه وسلم عن زيد بن ثابت: (أفرضكم زيد) .
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي دعا له بقوله: (اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين) .
مما يدل لأول وهلة على أن الاختصاص في العلم والتخصص في بعض مواده له أصل، وقد يفيد الأمة أكثر من غيره، وقد كانت نتائج هذا التخصص أو تلك الخصوصيات أنهم رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة من تلك العلوم رجعوا لصاحب الاختصاص فيها، فإذا اختلفوا في مسألة فرضية رجعوا إلى رأي زيد، وتقرءون في الرحبية: عن مذهب الإمام زيد الفرضي إذ كان ذاك من أهم الغرض وإن زيداً خُص لا محالة بما حباه صاحب الرسالة من قوله في فضله منبهاً أفرضكم زيد وناهيك بها فاختار صاحب الرحبية مذهب زيد الفرضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفرضكم زيد) .
وحينما كان عمر رضي الله تعالى عنه يجمع الشيوخ في مجلسه لمشاورته ومجالسته، كان ابن عباس وهو غلام يدخل معهم فيرى عمر أثر ذلك في وجوههم ولهم غلمان، فأراد أن يبين لهم موجب ذلك، فقال لهم ذات يوم: (ما معنى قوله سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:١-٣] .
قالوا: إنها بشرى من الله لرسوله بالفتح، بشرى للمسلمين بمجيء النصر ودخول الناس في الدين أفواجاً.
وابن عباس ساكت.
قال: ما تقول يا ابن عباس؟! قال: أقول: إنها نعت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا.
قال: وكيف ذلك؟! قال: إن الله أرسل رسوله برسالة وكلفه بمهمة أدائها، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، فإذا انتهت المهمة ودخل الناس في دين الله أفواجاً فما عليه إلا أن يتهيأ لملاقاة ربه، ليلقى وافر جزائه.
قال: وأنا أرى ذلك) .
ومصداق هذا من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي؛ يتأول القرآن) .
وكذلك حينما اختلفوا في ليلة القدر.
إلى آخره.