للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من إعداد العدة: الاهتمام بالصناعات العسكرية]

إن الله سبحانه وتعالى أمر الأمة أن تعد العدة للقتال ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ.

} [الأنفال:٦٠] إلى آخره.

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اتبعتم أذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) .

فاتباع أذناب البقر دليل على الاشتغال بالزراعة، والتبايع بالعينة دليل على الاشتغال بنوع من أنواع البيوع المختلف في حكمها، والجمهور على تحريمه، ومعنى هذا: ترك الجهاد والاشتغال بأمور الدنيا.

وقد بين المولى سبحانه ذلك فقال: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:١٩٥] ، وفسرها الصحابي الجليل أبا أيوب الأنصاري بأن ذلك بترك الجهاد في سبيل الله، وذلك حينما اصطف المسلمون مع أعدائهم في بعض المعارك، فقام فارس من المسلمين واخترق صف العدو حتى نفذ من الجهة الأخرى، ثم كر راجعاً، فقال بعض القوم: ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقال: لا والله! أنتم تفسرون هذه الآية على غير ما نزلت، كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نجاهد مع رسول الله، فقلنا ذات يوم: لقد فتح الله على رسوله، وانتشر الإسلام، وعلت راية المسلمين، لو رجعنا إلى مزارعنا فأصلحناها، وإلى تجاراتنا فأدرناها؛ فنزلت الآية الكريمة: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:١٩٥] أي: بترك الجهاد، والاشتغال بأمور الدنيا.

ومدار الأمر كله في هذا الباب على إعداد العدة، وكل شيء يعد، والآية الكريمة لم تحدد نوعاً من العدة، وتركت ذلك لتقدير المسلمين بحسب ظروف الحياة، فالعدة في سابق الزمن كانت بالخيل والسيف والرمح، واليوم بكل ما وُجد.

ويقول الخبراء العسكريون: السلاح اليوم هو الإنتاج.

ويقول النووي من قبل: إن تعلم الصناعات واجب كفائي، وعلى الأمة أن تتعلم كل صناعة حتى الإبرة -يقول ذلك في مقدمة المجموع -وهو موسوعة فقهية- حينما تكلم على أقسام العلوم، وما يجب على الأمة أن تتعلمه، وأنه يجب تخصص طوائف للفنون المختلفة- ويقول: لو قصرت الأمة الإسلامية في صناعة الإبرة لاحتاجت إلى عدوها في جلب الإبرة وتحكم العدو فيها في تلك الإبرة، فتجلس عرياناً لا تستطيع أن تخيط ثوباً، هكذا يقول النووي رحمه الله.

ونحن اليوم شاهدنا جانبين في الحرب والسلم، وإن كنا لا نتتبع الإذاعات والأخبار فقد استفاضت الأخبار في مد روسيا أنابيب لصربيا، فأمريكا ماذا فعلت؟ أعلنت عليها حرباً، بأي شيء؟ لا بالقذائف ولا بالنوويات ولا بالصواريخ، بل منعت عنها القمح، امتنعت من تصدير القمح لها، فقامت روسيا تفرج عن رصيد ذهبي من رصيدها لتشتري القمح من كندا.

وفي أثناء معركة رمضان -حرب العبور- وقفت روسيا قطع الغيار عن الجيش المصري حتى يدفعوا الثمن نقداً، ويقوم الملك فيصل -الله يغفر له ويرحمه- ويقدم شيكاً مفتوحاً، ويدفع قيمة قطع الغيار فوراً.

وأي نكاية أكثر من هذه؟! في أثناء المعركة تمنع القطع وتقول: أعطونا الثمن فوراً، بلد في حرب، واقتصادها متحمل الشيء الكثير، وفي تلك اللحظة تقول: أعطونا؟! فمعنى ذلك أنكم ضدنا في هذه الحرب! إذاً: المنتج للسلاح هو المتحكم في العالم.

قال الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:٦٠] : القوة تكون في السلاح والإنتاج والاقتصاد والتعليم، وأصبحت الأسلحة الآن كيماوية وغيرها.

الأمة اليوم ضيعت الجهاد في سبيل الله بتضييع إعداد العدة التي تقابل سلاح العدو، وكما يقولون: لا يفل الحديد إلا الحديد، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:٢٥١] ، بأي شيء يدفعون؟ كلما تعادلت القوتان أمن الناس من الحرب، أما إذا غلبت كفة إحدى الجانبين فما الذي ينتظر؟ أن ينقض القوي على عدوه؛ لكن إذا عرف أن هناك ما يقابل سلاحه تعادلت الكفتان فتوقفتا.

فالأمة اليوم ضيعت الجهاد، وكان السلف رضي الله تعالى عنهم يقاتلون قدر الطاقة، وكان هارون الرشيد رحمه الله يغزو سنة، ويحج أخرى.