للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دقة التوجيهات النبوية للفوز بالأجر من الله]

(قالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، قال: وما ذاك؟ قال: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون) ، المراد بالصدقة هنا: صدقة التطوع، وتشمل الزكاة ضمناً، ولكنهم غبطوهم على صدقة التطوع، فلما سمع ذلك منهم صلى الله عليه وسلم، وعرف أن هذا يثير الهمة عند المسلم، ويجعله يتطلع إلى مثل ذلك، وهذا من حقه، وفضل الله عظيم، فأرشدهم لا إلى طريقة لوفرة وكثرة العمل ليحصل على المال ليتصدق، ولكن أرشدهم إلى طريق آخر؛ لأن كسب المال ليس بالجهد ولا بوفرة العمل؛ لأن المولى سبحانه قال: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * ولِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:٣٣-٣٥] ، فزخارف الدنيا ليست مقياساً، فسيد الخلق صلى الله عليه وسلم خرج من الدنيا ودرعه مرهون في صاع شعير عند يهودي! وكأنه يقول لكم: إن الدنيا بما فيها ليست هي المقياس؛ ولهذا يقول العلماء: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب (ما لا يتم الواجب) ، أي: الذي وجب بالفعل، وما لا يتم الوجوب، أي: الذي لم يجب حتى الآن، ويحتاج في وجوبه إلى شيء آخر؛ فالصلاة وجبت، لكن لا تتم الصلاة، ولا يؤدى هذا الواجب الثابت إلا بالطهارة، فهل تصح صلاة بدون طهارة؟ لا، فلا يمكن لإنسان أن يؤدي الصلاة حتى يحصل على الطهارة، فالصلاة متوقفة على حصول الطهارة، والصلاة واجبة، فتكون الطهارة واجبة؛ لأن الواجب لا يتم إلا به؛ شخص فقير ولا تجب الزكاة عليه إلا بكسب المال، فإذا اكتسب المال وجبت عليه الزكاة، وشخص لم يمتلك زكاة فلا وجوب عليه، فهل نقول: عليك أن تعمل لتكتسب المال لتجب عليك الزكاة؟ لا، فما لا يتم الواجب المستقر إلا به فهو واجب؛ لأن الوجوب مستقر، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.

فهؤلاء لم يجدوا مالاً؛ ولم تجب عليهم زكاة، ولم يطالبوا بالصدقة، فليس بواجب عليهم أن يسعوا ويعملوا ويكتسبوا ليتوافر عندهم نصاب لتجب عليهم الزكاة؛ ولذا لم يوجههم للعمل والكسب، مع أن الإسلام يحث على العمل والكسب وعلى التصدق؛ فوجههم إلى عملة أخرى سهلة غير صعبة، تمشي في جميع الأسواق الدنيوية والأخروية، العملة التي تتداول في جميع الدول العالمية ثلاثة أقسام: عملة محلية إذا خرجت من حدودها لا قيمة لها، وعملة عالمية لها رصيد مائتين في المائة في البنك الدولي، والعملة المحلية هي التي لا رصيد لها، الدولة أنزلتها في الأسواق من أجل أن تسكت الناس وتمشي معهم، والعملة التي لها رصيد مائة في المائة فقط أو أقل من مائة في المائة تمشي، ولكن بعض الدول التي لها تعاهد وصلة مع تلك الدولة التي أصدرتها تتأثر عملتها زيادة ونقصاناً بحسب ضمانها عند البنك الدولي؛ فهذه هي العملة الجديدة التي وجههم إليها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعوضهم عما فاتهم.

ثم قال لهم: (ألا أدلكم على شيء تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من وراءكم، إلا من عمل بمثل عملكم؟) ، عندما يقول لهم: أدلكم على شيء تلحقون به من سبقكم، ماذا يريدون أكثر من هذا؟! قالوا: نعم، قال: (تسبحون دبر كل صلاة) ، وصلاة هنا نكرة تعم جميع الصلوات المفروضة، ولكن ما دام في أعقاب الصلاة فتكون لصلاة معينة لا على الإطلاق، فبعد الصلوات الخمس المكتوبة: (تسبحون ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين، وتكبرون ثلاثاً وثلاثين، وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ، وتسبحون تحمدون تهللون، يقول العلماء: هذا من باب النحت، سبّح بمعنى قال: سبحان الله، حمّد قال: الحمد لله، كبّر قال: الله أكبر، حوقل قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، استرجع قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذه ألفاظ منحوتة، تدل بلفظ على جملة.

فرح هؤلاء بما وجدوا من عملة جديدة ورصيد كبير جداً، ورجعوا فرحين بذلك، وحينما سمع الأغنياء بعطاء رسول الله لإخوانهم هل قالوا: هذا خاص بالفقراء، أم دخلوا معهم واقتحموا عليهم؟ وسمع الأغنياء بما أعطى رسول الله لإخوانهم ففعلوا مثلهم، فعاد أولئك الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:٥٤] ، هذا فضل الله، إن كان الذكر فهو عم الجميع، ولا راجع للمال؟ لأنهم الآن تساووا أيضاً في العبادة: بدنية، فعلية، قولية، والمال هو المتفاضل بينهم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.