[موقف النجاشي من الظلم للصحابة]
كان ملك الحبشة نصرانياً ولم تبلغه الدعوة، ومع ذلك يقرر صلى الله عليه وسلم عدالته ويقول: (إن بالحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم أحد بجواره، وأرى أن تذهبوا إليه) ، فيذهب إليه المسلمون، وتتجلى شهادة رسول الله لملك الحبشة.
وبعدما نزل المسلمون عليه علمت قريش بمن وصل إليه، ثم أرسلوا إليه عمرو بن العاص وهو من دهاة العرب، وكان صديقاً للنجاشي يأتيه بالهدايا والتحف من مكة، فجاء ودخل على الملك وسجد له على حسب عادته، ثم قال: (ما بك يا عمرو؟ قال: إن أشخاصاً صبئوا لا هم على ديننا ولا دخلوا في دينك، وجاءوا إلى أرضك يفسدون فيها، وقد أرسلنا قومنا بهدايا إليك لتردهم عليهم) .
فهل فرح الملك بالهدايا؟ لا.
بل قال: (لا والله، قوم لجئوا إليّ ووصلوا إلى أرضي، فلا أسلمهم إليكم قبل أن أسألهم، فانتظر حتى أحضرهم وأسألهم، وأعلم ماذا عندهم؟) .
وهذا عين القضاء الذي بينه صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله تعالى عنه حينما أرسله إلى اليمن قاضياً قال: يا رسول الله! إني لا أعرف القضاء، قال: (إذا أدلى إليك خصم فلا تحكم له حتى تسمع من خصمه الثاني) ، قال علي: (والله لقد علمت القضاء من ذلك الوقت) .
فهنا الملك جاءه صديقه بهدايا من أجل أن يسلم إليه أقواماً ما دخلوا في دينه وهربوا من دين أقوامهم، يعني أنهم لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، فلما جاءوا واشتد الأمر عليهم قال لهم جعفر رضي الله تعالى عنه: (لا يتكلم أحد، فأنا خطيبكم اليوم) .
فلما أرادوا الدخول كان عمرو جالساً بجانب النجاشي، قال: (انظر إليهم لن يسجدوا إليك ولن يحترموك) ؛ لأنه يعرف أن المسلم لا يسجد إلا لله، فلما دخلوا ولم يسجدوا سألهم: (لم لم تسجدوا كما يسجد الناس؟ قال: نهينا أن نسجد لغير الله، قال: وما شأنكم؟ قال: كنا وكنا وأخذ يصف حالة العرب وما كانوا فيه من الظلم والبغي والقحط والجوع وقطيعة الأرحام وأن القوي يأكل الضعيف، حتى قال: ثم بعث فينا رجل منا نعرف نشأته ومولده ونسبه، فأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر وأمرنا بصلة الأرحام وأمرنا بالصلاة إلى آخره) .
قال: هل معك شيء مما جاء به، فقرأ عليه شيئاً من سورة طه، فغاظ ذلك عمرو بن العاص، فغمز الملك فقال: سله ما يقولون في عيسى؟ انظر إلى التحريش، وهكذا دائماً أعداء الفطرة، ينظرون إلى نقاط الضعف، فسألهم: (ما يقول صاحبكم في عيسى؟ فقال: يقول: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وقرأ عليه شيئاً من سورة مريم.
فما كان من هذا الملك العادل إلا أن أهوى إلى الأرض وأخذ قشة صغيرة، وقال: والله! ما زاد صاحبكم على ما جاء به الناموس من عند الله ولا مثل هذه) ، ثم قال كلمته التي هزت التاج فوق رأسه: (لولا ما أنا فيه من الملك، واستطعت أن أصل إليه لغسلت التراب عن قدميه) ! هكذا يعلن الملك في بلاطه: لو استطاع الوصول إلى رسول الله لكان خادماً يغسل عن قدميه التراب، ثم قال: (اذهبوا فلن يصيبكم أحد) ، وأعلن في مملكته أنهم يحلون حيث شاءوا، ولا يعترضهم أحد بشيء، وقال: ردوا الهدايا على عمرو وصاحبه.
وهنا تظهر نبوءة الرسول: (إن بالحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم أحد بجواره) ، وله قصة طويلة في أخذ الملك منه ورجوعه إليه مرة أخرى.