للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معية الله]

وقيل: تجاهك بمعنى: معك، والمعية من الله على قسمين: معية عامة لجميع الخلق، قال الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [المجادلة:٧] فهذه معية عامة، فلا يخفى على الله من خلقه شيء، ولا يغيب عن علمه وعن نظره شيء فهو مع الجميع.

ومعية خاصة: وهذه المعية الخاصة لمن أحبهم الله، أما من لم يحبهم فيتركهم، قال الله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل:١٢٨] ، وغير المتقين لا يستحقون هذه المعية، وقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] ، ولما قال قوم موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦١-٦٢] .

إذاً: قوله هنا: (تجده تجاهك) المقصود بها المعية الخاصة، فالله مع المتقين معية خاصة، وكان مع موسى وقومه معية خاصة، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم والصديق وهما في الغار معية خاصة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر: (ما بالك باثنين الله ثالثهما؟!) ، فجاء العدو لينظر، فإذا به تُعمى بصيرته، ويكذب نظره، ويرجع خائباً، والأثر قد دخل إلى الغار، وأمامهم حمامة باضت، وعنكبوت نسج، ونبات نبت، فقالوا: كيف يدخلان في هذا الغار وهذه الآثار موجودة؟! فردهم الله بنسج العنكبوت البالي المهين الضعيف، مع حقد قلوبهم، وسيوفهم بأيديهم، ويقول الصديق: والله! لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما بالك باثنين الله ثالثهما؟!) ومن كان الله معه فلا يخاف أحداً، ومن يتخلى الله عنه فهل يأمن من الله؟! لا، والله! إذاً: المعية الخاصة هي: معية التكريم، ومعية النصر، ومعية الحفظ، ومعية التأييد، ومعية التوفيق، ومعية السعادة في الدنيا والآخرة، ومن حفظ الله لرسوله عليه الصلاة والسلام ما أخبر به الصديق رضي الله تعالى عنه أنه كان جالساً عند رسول الله في مكة لما نزلت سورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:١] ، فجاءت زوجة أبي لهب ومعها فهر، أي: حجر كبير في يدها، وهي تبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لها: هو مع أبي بكر في ذلك المكان، فلما جاءت رآها أبو بكر من بعيد فقال: (يا رسول الله! فلانة جاءت وبيدها فهر، أخشى عليك منها، فقال: لا تخف إن الله منجيني منها!) ، وقرأ صلى الله عليه وسلم آيات من كتاب الله، فجاءت ووقفت على أبي بكر فقالت: أين محمد؟ أين صاحبك؟ وهو جنبها!! قال الله: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:٤٥] ، وجاء في بعض كتب البلاغة المتأخرة في قوله: {حِجَابًا مَسْتُورًا} بمعنى: ساتر، مفعول بمعنى: فاعل، ولو كان مستوراً بمعنى ساتر، فهل رأت الحجاب؟! ما رأته، إذاً: مستور على الحقيقة لا على المجاز، فهو ساتر ومستور، ولو كان حجاباً مستوراً بمعنى ساتر، لكان ظاهراً لها، والمعجزة في كونه مستوراً، ومعنى ساتر يفهم من كلمة حجاب؛ لأن الحجاب للحجب والستر، فجمع القرآن بين المعنيين: فهو ساتر ومستور في وقت واحد، والمعجزة في كونه مستوراً عن عينيها.

ولما خرج صلى الله عليه وسلم من بيته ليلة الهجرة، كان على باب بيته عشرة رجال، ليس فيهم امرأة، ليس واحداً، ولا اثنين، بل عشرة رجال بسيوفهم قائمين على باب بيته ينتظرون خروجه ليقضوا عليه بضربة رجل واحد، لكن معية الله كانت مع رسوله في ذاك الوقت، فخرج عليهم علانية، وأخذهم النعاس، وأعمى الله أبصارهم، وقرأ الآية الكريمة: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:٩] ، وأخذ التراب من تحت أقدامهم، ووضعه على رءوسهم، فمن كان الله معه فلا يخشى أحداً، (احفظ الله تجده تجاهك) .

فينبغي للعاقل أن يفكر، فالفلاسفة أو علماء الاجتماع يقولون: الإنسان مدني بطبعه، بمعنى: لا يعيش وحده، فأنت لا تستطيع أن تعمل كل شيء وحدك؛ من زراعة، ونسيج، وصناعة، فالثياب التي تلبسها لا تستطيع أن تغزلها، فلابد من جماعة من البشر تتعاون على الحياة، لقمة العيش لا تصنعها وحدك، فحرث الأرض، يحتاج إلى محراث، والمحراث يحتاج إلى ورشة تعمل الحديد، وهكذا الآلات والمكائن تحتاج إلى ورشة وعمال، وعند الحصاد تحتاج إلى منجل ليحصد، وهكذا فلا تطحن وتعجن وتخبز إلا وآلاف الأيدي قد عملت معك، فأنت لن تستطيع أن تعيش وحدك، ولابد أن يكون لك مُعين، وأنت بين أحد أمرين: إما أن تتخذ معينك رب العالمين، الذي بيده ملكوت كل شيء، وإما أن تتخذ معيناً يحتاج إلى من يعينه، فالعاقل قبل كل شيء يجعل وجهته إلى الله، فإن كان في عبادة فليخلصها لله، وإن كان في عمل مع خلق الله فليعامل الله، وهذا من قبيل الصدقة، كما قال الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:٢٤٥] ؛ لأنك بإعطائك المسكين الذي لا يستطيع أن يكافئك، فإنما تعطي الله، وتدخر الأجر عند الله، وهذا رصيد مضمون، الحسنة بعشر، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف لا يعلمها إلا الله، {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:٢٦١] .