يبحث العلماء في الفرق بين الغبطة والحسد، فالغبطة محمودة، وهي مجال للمنافسة في الخير، وهي: أن تتمنى لك مثل ما لغيرك مع بقاء نعمة الغير عليه، أما الحسد: فهو تمني زوال نعمة الغير ولو لم تأت إليك، ولذا يقولون: الحاسد يحارب ربه؛ لأنه لم يرض بقسمة الله في خلقه، والله تعالى يقول:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الزخرف:٣٢] ، والحسد يحمل العبد على أن يحتقر أخاه؛ لأنه ما تمني زوال تلك النعمة عنه إلا لأنه احتقره واستصغره مع تلك النعمة واستكثرها عليه، ويقولون: أول معصية وقعت إنما هي الحسد الذي جر إلى الازدراء، والازدراء من الناحية الأخرى أنتج كبراً، والكبر أدى إلى المعصية، والمعصية طردت من رحمة الله، وذلك في خلق آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: فعندما أراد الله سبحانه وتعالى خلق آدم قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة:٣١] ، فقالوا على سبيل الاستفسار والاستيضاح:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[البقرة:٣١] ، وفي النهاية:{اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ}[البقرة:٣٤] ، ثم بيّن موجب الاستكبار فقال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف:١٢] ، ادعى لنفسه الأفضلية والخيرية على آدم.
إذاً: حسد آدم على ما أنعم الله عليه: أن خلقه بيده سبحانه، ثم كرمه ونفخ فيه من روحه، ثم أمر الملائكة أن تسجد له، فكل تلك نعمٌ متضافرة على آدم، وإبليس استكثر هذا عليه، فهو يراه وهو يعجن في الطين، ثم يراه يسوى من صلصال، ثم يراه ينفخ فيه، وبين يديه تمت خلقه آدم، فاستصغر آدم واستعظم نفسه، فتكبر وجره الكبر إلى الامتناع عن السجود لأمر الله، وإن كان السجود تحيةً لآدم إلا أنه بأمر من الله، فهو طاعة لله وإن توجه لآدم أو لغيره، والله لا يأمر أحداً أن يسجد لأحد عبادة، وقد كان السجود في بعض الأمم تحية كما سجد أبوا يوسف وإخوته له تكريماً وتحيةً.
يهمنا أن إبليس حسد آدم، ولما حسده ازدراه، ولما ازدراه تكبر عليه، ولما تكبر عليه امتنع من امتثال أمر الله، فوقعت المعصية، فكانت النتيجة البعد والطرد -عياذاً بالله! ولكن الغبطة ليست احتقاراً للمنعم عليه، ولا استكثاراً للنعمة على من هي عنده، ولكن طمع في فضل الله أن يعطيه مثلما أعطى الآخرين، ولا حرج على أحد في فضل الله، ولا يمنع أي إنسان من أن يرجو فضل الله، فالذي أعطى زيداً يعطي عمراً، ولكن حينما يكون القلب سليماً.