[مقصد النبي عليه الصلاة والسلام من تكرار الصلاة في الحديث ثلاث مرات]
إذاً: عمود هذا البيت الذي أوى إليه المسلم وابتناه وسكن فيه يقيه حر الحيرة، ويقيه برد الشك، وهو بيت الإسلام، ولا يقوم هذا البناء إلا على الصلاة، ولهذا جاء في الحديث: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) .
إذاً: يؤكد صلى الله عليه وسلم على أمر الصلاة ثلاث مرات، الأولى عند قوله: (تقيم الصلاة) ، والثانية عند قوله: (وصلاة الرجل في جوف الليل) أي: من النوافل.
والثالثة:) وعموده الصلاة) .
ولذا جاء في الحديث أنه أول ما يُسأل عنه العبد الصلاة، فإن قبلت قبل معها سائر العمل.
وليس هنا تعارض بين هذا الحديث وحديث: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) ، فأول ما يسأل عنه العبد من حقوق الله عليه الصلاة، وأول ما يسأل عنه من حقوق الخلق الدماء، وهذا إن لم يقض فيها في الدنيا.
ولذا يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: إن هناك قضايا، لن يقضى فيها إلا يوم القيامة، ربما تكون -كما يقولون- قيدت ضد مجهول، أي: أننا ما عرفنا الجاني، أو أنه تكون هناك ملابسات تجرم البريء وتعفي الجاني.
وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله تعالى في باب الجنايات قصة نوردها هنا، قال: كان عند رجل جزار شاتان، وعند الفجر قام ليذبحهما، فذبح واحدة وشردت الأخرى فتبعها، فدخلت خربة، فدخل وراءها فأمسك بها، فإذا برجل يتشحط في دمه في تلك الخربة، ودخل الحرس فوجدوا الجزار والسكين في يده ملطخة بالدم، والرجل القتيل يتشحط في دمه، قالوا: أنت قتلت هذا؟ قال: نعم.
فأخذوه وذهبوا به إلى الوالي، كان في زمن علي رضي الله تعالى عنه، قالوا: هذا ذبح هذا، والسكين في يده، قال: قتلته؟ قال: نعم، وحكم عليه بأن يقتل قصاصاً، وحدد اليوم والساعة لتنفيذ القصاص، وعندما حانت الساعة سيق إلى الميدان ليعدم، وجيء به، والناس مجتمعون، فإذا برجل من وسط الجموع يخرج ويقول: لا تقتلوه، أنا القاتل.
وأُوقف القصاص وذهبوا به إلى الإمام علي، فقال للجزار:: أنت القاتل؟ قال: لا، والله ما قتلته، القاتل جاءكم بنفسه، قال له: فلماذا قلت في المرة السابقة أنك القاتل؟ فقال الجزار: وجدت نفسي في موقف لا ينفع فيه الإنكار مهما أنكرت ومهما أقسمت، فهذا قتيل يتشحط في دمه، وهذه سكين في يدي بدمها، لو قلت دم الشاة أو دم غيرها من يصدقني، فأردت أن أختصر الطريق وأهون على نفسي التعذيب.
قالوا للآخر: وأنت ما الذي جاء بك؟ قال: والله تذكرت، وقلت: الذي قتلته عدو وخصم لي، وهذا المسكين البريء كيف أتسبب في قتله ولا ذنب له، فعظم علي في نفسي أن أتحمل نفسين في وقت واحد -فكأن بذرة الإيمان لا تزال فيه- فقال علي رضي الله تعالى عنه: لئن كنت قتلت نفساً فقد أحييت نفساً، وطلب من أولياء الدم العفو ودفع الدية من عنده.
فالحديثان، (أول ما يحاسب به العبد الصلاة) ، هذا في حق الله، و (أول ما يقضى فيه بين الناس في الدماء) ، هذا في حقوق العباد، وهي الدماء والأعراض والأموال، لكن الدماء قبل كل شيء.
وصلى الله وسلم على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين.