ثم قال عليه الصلاة والسلام:(أمر بمعروف ونهي عن منكر صدقة) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر به قوام الأمم، والحفاظ على المجتمعات، وبه يحمل المجتمع مسئولية نفسه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس خاصاً بهيئة معينة، ولكن الهيئة لها اختصاصات، ولها محيط، ولها صلاحيات، أما بقية الناس فكل بحسب استطاعته:(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) هذه للهيئة التي لها الأمر، (فإن لم تستطع فبلسانك) ، وهذا كما في الآية الكريمة:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:١٢٥] ، هذا مع مرتكبي المنكر، فكيف إذا كان مع شخص غير ذلك؟! والمجتمع إذا اختفى فيه المنكر، وتفشى فيه المعروف، كان مجتمعاً مثالياً؛ لأن النهي عن المنكر درء للمفاسد، والأمر بالمعروف جلب للمصالح، وإذا كان المجتمع متعاوناً على ذلك كان كالأسرة الواحدة، وأعتقد أن كبار السن الموجودين كان الواحد منهم إذا وجد ولد جاره على خطأ نهاه وضربه، فإذا ذهب الولد يبكي إلى أبيه ضربه أبوه وقال: هذا مثل أبيك، فتعاون المجتمع كله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو أن جاراً رأى امرأة جاره تخرج في الطريق لردها، وشكره جاره على ذلك، أما الآن إذا كلمت ابن جارك: قال لك أبوه: ليس لك دخل، ولو أنك تكلمت مع زوجة جارك في نهي عن منكر لاتهمت بكل ما لا يرضي.
وإليك مقارنة قرآنية بين أمتين في هذا الباب، يقول المولى سبحانه في أمم ماضية:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}[المائدة:٧٨] ، لماذا؟ {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة:٧٩] ، كانوا لا يتناهون ولا يتناصحون أي: لا ينهى بعضهم بعضاً، حتى ظهرت المنكرات.
وانظر في المقابل في هذه الأمة:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:١١٠] ، ما هي مسوغات هذه الخيرية؟! وهل هي منحة بدون مقابل؟ وهل هي هبة من الله بدون شيء؟ لا، بل لها سبب، وكما يقول القضاة: حيثيات الحكم، فاستحقت الأمة الحكم لها بالخيرية بأمرها بالمعروف، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:١١٠] سبحان الله! ما قال: أخرجت في الوجود، لا، بل قال:(أخرجت للناس) يعني: أخرجتم لغيركم، في أي شيء؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:١١٠] ، فبسبب عدم تناهي بني إسرائيل كانت تلك النتيجة، وبسبب قيام هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت هذه الشهادة.
إذاً: خيرية الأمم وقوام المجتمعات والحفاظ عليها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومهما كان المعروف الذي أمرت به أو كان المنكر الذي نهيت عنه قليلاً ففضل الأمر والنهي موجود ولك الأجر، والدال على الخير له كأجر فاعله، فلو أمرت إنساناً بمعروف كان يجهله وعمل به وأخذه غيره عنه؛ فلك أجر ذلك إلى يوم القيامة، وإذا نهيت إنساناً عن منكر يفعله، وكف عنه؛ فلك أجر ذلك إلى يوم القيامة، وفضل الله كبير، ونعمه على العباد عظيمة، يجزل العطاء في أقل شيء.