فأصحاب رسول الله يسألونه عن الحلال والحرام، ويطلبون منه التوجيه في كل ما يعرض لهم، وهذا الرجل طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم النصيحة، وجاء في بعض الروايات أنه أبو الدرداء، وقال:(يا رسول الله! أوصني وأوجز) ، أي: أوصني بوصية ولا تكثر لعلي أعقل، أو لعلي أحفظ، والوصية من وصى، والمادة اللغوية وَصِيَ، وصية، على وزن فعيلة، والوصية من وَصِيَ، فحروف مادتها: الواو والصاد والياء.
وتجد كلمة أخرى شبيهة بها في مادتها، وهي: وَصَلَ، فالواو والصاد موجودتان في الكلمتين، وتختلف الوصية من أنها تنفرد بالياء، والوصل ينفرد باللام.
يقول علماء فقه اللغة: إذا وجدت كلمتان تتفقان في أكثر الحروف، وتختلفان في حرف واحد، فبينهما صلة قرابة، والفرق بينهما هو الفرق بين الحرفين المختلفين، ويمثلون لذلك بقولهم في اللغة: خَبَنَ وغَبَنَ، فالخبن هو: التقصير من طول الثوب، والغبن: النقص في القيمة، فيقال: فلان مغبون في السلعة، أي: اشتراها بعشرة وهي تساوي خمسة، فنقص عليه من الثمن وصار بدون مقابل، أو باع السلعة بخمسة وهي تساوي عشرة، فهذا غُبن في خمسة ذهبت عليه، فالغبن والخبن كلاهما يشترك في معنى النقص.
لكن الخبن: في نقص الثوب وتقصيره، والغبن: في نقص القيمة وتقديرها.
ومن دقة اللغة العربية وبلاغتها أنهم غايروا بين الغين والخاء، فنظروا إلى أن الغين أدخل في الحلق، والخاء أظهر، وكلها من حروف الحلق، وهي: الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء، فلما كان الغبن أمراً معنوياً، والغين أدخل في الحلق، جعلوا الغين مع الغبن من النقص المعنوي، ولما كان الخبن في المحسوسات، جعلوا الخاء التي هي أظهر من الغين في المعنى الملموس.
إذاً: وصى ووصل متقاربتان، والوصية صلة للموصى إليه، ولذا قال الله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}[النساء:١١] ، وقال:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}[البقرة:١٨٠] ، والوصية للوالدين والأقربين هي صلة لهم بما يوصي به، ومن هنا فمعنى: أوصني، أي صلني بمعروفك يا رسول الله! تقول: أوصيك يا فلان! أي: أصلك بخير وأمنحك إياه.