[اللين والحكمة في الدعوة إلى الله]
فهنا تعليم وتوجيه وإرشاد للدعاة إلى الله بالرفق: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} لا بالعصا، بل {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:١٢٥] .
وأذكر قصة هنا: رئيس المحاكم الشيخ عبد الله بن مزاحم الله يغفر له، في عام (٦٣هـ) جاء إلى المدينة مع الشيخ ابن صالح والشيخ الخيال، وكان في منطقة بدر شجرة يعظمها الناس -مثل ذات أنواط- فأرسل رجلاً من الهيئة إلى أمير بدر ليأتي إلى تلك الشجرة ويقطعها.
عمر رضي الله تعالى عنه قطع الشجرة التي وقع تحتها بيعة الرضوان؛ لأنه لما حج ونزل هناك، وجد الناس، يصلون ثم يذهبون فسأل: أين تذهبون؟ فقيل له: يذهبون ليصلوا تحت الشجرة التي بايع عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطعها مخافة أن يفتتن الناس بها-.
الخلاصة: ذهب مندوب الهيئة ليقطع الشجرة، فذهب ليصلي المغرب، ومن الغد سينفذ مهمته، جاء إلى المسجد لصلاة المغرب ينتظر الأذان، فيأتي رجل فلاح فصادف أن جلس بجوار هذا الشخص الذي من الهيئة، وعند الجلوس قال: يا رسول الله، فالتفت إليه مندوب الهيئة وقال له: هل أنت مشرك؟ لا تقل هذا، بل قل: يا ألله! ولا تناد غير الله، فالتفت إليه الرجل وقال: أنا مشرك، بل المشرك أنت وأبوك وجدك.
وحصل نزاع بينهما، وفضَّه الناس.
ومن الغد ذهب مع رجال الأمير إلى الشجرة وقطعوها وانتهت قصتها.
وعلى رأس السنة ذهب الشيخ عبد الله في جولة إلى منطقة بدر، وبقدر الله الفعال لما يريد يدخل ذلك المسجد وينتظر الصلاة ويأتي ذاك الرجل نفسه ويجلس بجواره ويقول: يا رسول الله، فيلتفت إليه هذا العالم الجليل، ويقول: اللهم صل وسلم وبارك عليه، صلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله.
وقال للرجل: أرى أنك تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: إي والله أحبه بأمي وأبي.
قال: ولكن أرأيت ما تقوله أنت عند قيامك وقعودك أحب إليك أم الذي كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا قام أو قعد.
قال: لا والله الذي كان يقوله عليه الصلاة والسلام أحب إلي ولو كنت أعلمه ما تركته.
قال: كان يقول: يا ألله، إذا جلس وإذا قام قال: يا ألله، وفي كل شئونه يقول: يا ألله.
فالتفت إليه الرجل وقال: يعلم الله إن وجهك وجه خير، في العام الماضي جاءنا واحد وجهه وجه شر، وذكر له قصته.
ثم قام هذا الرجل من عنده، وقال له: أين أنت نازل؟ قال له: عند الأمير.
ذهب هذا الرجل لأمير قبيلته، وعرض عليه أن يستضيف هذا الرجل، فأضافه عنده، ودار بينهما هذا الحوار.
قال الشيخ لهذا الرجل: أتحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: عجباً والله! هل من مسلم في الدنيا لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل الإيمان إلا بعد محبة رسول الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) ، وأخذ الرجل يبكي.
قال له: علام تبكي.
قال: أبكي على ما سفك من دماء منا ومنكم.
قال له: لماذا؟ قال: جاءنا أشخاص جهال يكفروننا لأننا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلمونا حقيقة التوحيد، فلو جاء مثلك، وقابلنا أول الأمر أمثالك، والله ما اختلفنا معكم في شيء.
أقول أيها الإخوة: إن من صلب الدعوة إلى الله -لكل من يتصدى لهذا الأمر- أن يلتزم الداعية الحكمة والرفق بالمسلمين.
هذان شخصان مع شخص واحد وفي موضوع واحد، وفي لفظ واحد، كيف كانت نتيجة كل منهما؟ الأول خصومة ومشاجرة، والثاني محبة وقبول للحق ودعوة إليه، المولى عز وجل يقول: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:١٠٨] ، أي: لا تسبوا أصنامهم فيسبوا الله، بل اتركوهم وخذوهم بالحكمة، والرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف يدعو ثقيفاً، وكان موقفهم في غاية من الإساءة، حتى سلطوا عليه السفهاء، فرموه بالحجارة، حتى أدموا قدميه، ويقف ذلك الموقف العظيم فيقول: (إلى من تكلني، إلى قريب يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن رحمتك أوسع لي، أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس) وينزل ملك الجبال يقول له: تريد أن أطبق عليهم الأخشبين يقول: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) .
ويدخل مكة في جوار رجل مشرك، والأصنام معلقة مثبتة في جدران الكعبة بالحديد والرصاص، ويبقيها على ما هي عليه، ويأتي وقت الهجرة، ويخرج تحت ظلال السيوف، {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:٩] ، ويأخذ التراب ويضعه على رءوسهم ثقة بالله، الذي ملأ قلب رسوله يقيناً عندما أُسري إلى المسجد الأقصى وعرج به إلى السماوات.
وجاء في فتح مكة، فماذا فعل؟ يدخل في رحاب الكعبة، وهو يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:٨١] ، وبالقضيب يشير إلى الأصنام فتتهاوى وتتساقط.
مع العلم أن الأصنام كانت موجودة من أول بعثته صلى الله عليه وسلم، وربما استند إلى بعضها، ولم يلتفت إليها؛ لأن الوقت ما حان ليكسرها، ولو كسر صنماً واحداً لكسروا شوكة المسلمين، ولن يقاومهم أحد.
ولما جاء الأوان كان يهدمها بإشارة -قبل أشعة ليزر- قضيب يشير به، يقول ابن كثير: ما أشار لوجه صنم إلا خر لقفاه، ولا أشار في قفا صنم إلا انكب على وجهه.
فعندما دخل مكة في جوار رجل مشرك، قد كان يستطيع أن يأمر ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، لكن حكمة الدعوة وسياستها اقتضت غير ذلك.
وقبل الهجرة بفترة يأتي جبريل إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومعه البراق، ويركب إلى بيت المقدس، ويعرج به إلى السماوات السبع، وإلى سدرة المنتهى، ثم كان قاب قوسين أو أدنى إلى آخره، ويرجع إلى مكانه.
ولما أُمِر بالهجرة، هيأ أبو بكر الرواحل، وجهِّز الزاد، وبحث عن الدليل، وكان رجلاً مشركاً - ابن أريقط - ليمشي بهم في طريق غير مسلوك، ويخرجون في الليل ويدخلون الغار.
سبحان الله أما كان بإمكان البراق أن يوصلهم في نصف الليل؟! لا.
لأن رحلة الإسراء والمعراج رحلة تكريم وتشريف وإيناس، فقد كانت مواساة لما لاقاه النبي عليه الصلاة والسلام من أهل الطائف وأهل قريش، فالأنبياء يستقبلونه في بيت المقدس، ويقدمونه فيصلي بهم، فهذا تعويض كبير جداً، بل عرج به إلى سدرة المنتهى، بل يتجاوز السدرة ويقف جبريل ويقول هذه نهايتي تقدم أنت يا محمد.
ماذا يقدر الإنسان إذا كان موقف {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:٨-١٨] .
{دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} من يستطيع أن يحدد الدنو المكاني أو المكانة، أين الذات وأين المكان وأين الزمان وأين وأين، فهذه أمور لا يقدر العقل على تصورها، وتترك إلى قدرة المولى سبحانه.
وفي الغار وأبو بكر خائف يأتي المشركون بعددهم وبسيوفهم فيقفون على فم الغار، أعينهم تقول لهم: الأثر ينتهي هنا، وعقولهم تقول لهم: لم يدخل الغار أحد، وإلا لكان قد مزق نسج العنكبوت، وكسر بيض الحمام ولم يعلموا أن العنكبوت والحمام من جند الله، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:٣١] ، فأرسل لهم جنوده، بل أرسل أضعف جنوده احتقاراً لهم، كأنه يقول: كيدكم وجمعكم وعددكم وعدتكم لا تساوي نسج العنكبوت عند الله.
يقول الصديق للرسول صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله، لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا.
وبكل طمأنينة، وبكل ارتياح، وبكل يقين يرد عليه: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) ، يقول الله حاكياً عن ذلك: {إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ماذا؟ ما قال اثنين، قال: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:٤٠] ، حتى لا يقال: يمكن العدد ليس له مفهوم، فيمكن أن يكونوا ثلاثة أو أكثر.
{إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:٤٠] ، والغار لا منفذ له إلا من جهة من يطلبونهما، {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] ، وهذا هو برد اليقين الذي أخذه من رحلة الإسراء والمعراج؛ لأنه رأى ملكوت الله، ورأى آيات الكون، ورأى ثمار أعمال أمته، ورأى الجنة ودخلها، ورأى قصور بعض أصحابه، رأى قصراً لـ عمر بن الخطاب وفيه الجواري فأراد أن يدخل فرجع، يقول: تذكرت شدة غيرتك يا عمر، فيبكي عمر ويقول: أو منك أغار يا رسول الله؟ فالغيب عنده أصبح حاضراً مشاهد! نرجع إلى الحديث: الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) ، وذكر الصلاة في جوف الليل، واستطرد الحديث إلى الرفق في الدعوة، وإلى ما كان منه صلى الله عليه وسلم في صبره على قومه، وترك الأمور لأوقاتها ومناسباتها، وترك الأصنام معلقة، وجاء يوم الفتح ويشير إليها بقضيب، وانتهى الأمر وقضي على دولة الشرك في النهاية، نزل {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:١] ، ونزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:٣] .