[لماذا يستحق الله أن نعبده وحده لا شريك له؟]
ومن باب التحاكم العقلي، هل يجوز للإنسان أن يشرك مع الله في عبادته شيئاً آخر، كما فعل قوم نوح أو كفار قريش في الجاهلية؟ إذا نظرنا إلى القرآن الكريم في مواطن متعددة، نجد حق العبادة مربوط بحق الربوبية للمولى سبحانه، فمن الذي خلقك وسواك وعدلك، {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:٨] ، ثم أخرجك إلى الوجود، ثم أنزل من السماء ماءً، {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:٢٥-٣٢] .
من الذي أنزل الماء من السماء، وشق الأرض للنبات، فيخرج ضعيفاً ثم يشتد عوده، وتخرج السنبلة وتأتي الثمرة بكل أنواع النبات والفاكهة لك، من يقدر على ذلك، من الذي بيده هذا غير الله عز وجل.
إذاً: إذا قمت تؤدي العبادة فأدها لصاحب هذا الخلق المبدع، ولذا نجد الله عز وجل يلزم قريشاً بعبادته؛ لأنه هو الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، كما في قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:٢-٤] ، والإطعام من جوع والأمن من خوف أعظم نعمتين في الوجود، فكبريات الدول إذا توفرت فيها نعمة العيش وفقدت نعمة الأمن، كانت حياتها في قلق واضطراب، واقرءوا كيف يعيش الغرب عندما فقدوا نعمة الأمن التي نحن لا نحمد كثيراً عليها، حتى إن الواحد منهم إن خرج من بيته يخرج ومعه بعض المال ليعطي من يتعرض له من قطاع الطريق، ليخرج من أذيتهم، وإلا ضربوه وأهانوه، بل قد يقتلوه عياذاً بالله، فكيف تكون عيشة هؤلاء؟! والحديث يقول: يأتي على الناس زمان تسير الضعينة من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله والذئب على الغنم.
ونحن والحمد لله في نعمة تستوجب الشكر، وشكر الشكر على هذه النعمة.
نسأل الله أن يديمها علينا وعلى عامة المسلمين، فإنها ليست نعمة قاصرة على أهل البلاد، ولكن ينعم فيها الوافدون إلى بيت الله الحرام، هذا من باب التنبيه على {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ} [قريش:٣-٤] .
كذلك أول نداء في المصحف (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، لم يقل: (يا أيها الذين آمنوا) ؛ لأنه نداء عام يلزم جميع الخلق، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:٢١] ، ثم جاء بالتعريف للرب سبحانه ونعمه على المربوب {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:٢١-٢٢] ، يعني خيمة كبيرة أرضها مفروشة، وهي مسقوفة، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} وداخل هذا البيت الكبير {وأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ} [البقرة:٢٢] من تلك الأرض {مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:٢٢] خلقكم وآواكم ورزقكم {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢] ، لأنه لا ند لله في ذلك، لا في خلقكم ولا في خلق من قبلكم، ولا في جعل الأرض فراشاً، ولا في جعل السماء بناءً، ولا في إنزال الماء، ولا في إنبات الثمرات رزقاً لكم، إذا {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢] ، وهذا كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: هو مضمون لا إله إلا الله.
يأتي بعدها مضمون: (محمد رسول الله) {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:٢٣] ، أي: إن كنتم في ريب من القرآن ورسالة رسولنا إليكم، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:٢٣] ، أي: ادعوا جميع من تستشهدون وتستظهرون، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:٢٤] ، انظر إلى التحدي، فإنه تحد مركب {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} على باب الحكاية، وأيضاً (وَلَنْ تَفْعَلُوا) وفعلاً لم يفعلوا {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:٢٤-٢٥] .
إذاً بادئ الأمر أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً؛ لأنه ليس من حق أحدٍ أن يُشرك مع الله، لأنه لا يوجد موجود هو ند لله، ولا شريك مع الله في ملكه، ولكن كما قال صلى الله عليه وسلم عن ربه: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم) .
يأتي الحديث القدسي: (إني والجن والإنس في نبإ عظيم: أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري) ، وبهذه المناسبة فإن العبادة ليست مجرد صلاة في القبلة، وصيام في رمضان، وزكاة للفقير، وحج إلى بيت الله بل كل أوامر الله عبادة، فأنت حينما تأكل الطعام تعرف أنه من عند الله، حينما تأتي إلى الشاة لتذكيها لو أنها ماتت دون أن تذكيها، أو جاء مشرك وقال باسم اللات والعزى، وأراق دمها فإنها تحرُم عليك، وإذا جئت وقلت باسم الله، حلت لك لماذا؟ فالسكين واحدة في يد المسلم أو يد المشرك، قطع العروق واحد، إراقة الدم والتخلص من فاسده سواء، ولكن تلك يد مشرك ذبح لصنمه، وهذه يد مسلم سمى وذبح لربه، والفرق بينهما أن المشرك معتد ظالم، والمسلم عابد ملتزم طائع لله، عرف بأن الذي كونها وخلقها ورعاها في بطن أمها هو الله، والذي أخرجها إلى الوجود هو الله، والذي أنبت لها المرعى هو الله، والذي أنبت لحمها وشحمها هو الله، فالخالق لها هو الله، فحينما تريد أن تأكلها تستأذن الله أي: رب أنت أحللتها لي باسمك، باسم الله الله أكبر تقول: باسم الله الله أكبر، لا تقل: بسم الله الرحمن الرحيم، تقول باسم الله الله أكبر؛ لأن الذي أقدرك عليها هو أكبر منك، فتتذكر عظمة الله، تأتي للبعير وأنت لا تساوي قدر رجل من رجليه، وتنيخه أو تطعنه وقد عقلت إحدى يديه، فالله سخر لك هذا المخلوق الكبير تنحره وتسلخه وتأكل لحمه، فهو أكبر سبحانه وتعالى.
(تعبد الله لا تشرك به شيئاً) : هذه الفقرة كما يقول العلماء هي التي من أجلها أرسل الله الرسل، وقامت بين الرسل وأممهم تلك المعارك، وهي التي قاتل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة، لما قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥] ؛ لأنه يقول: اعبدوا الله وحده ولا تجعلوا معه شركاء، مع أن العرب كانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك فهم معترفون بأن آلهتهم تحت سلطة الله سبحانه، وكانوا يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣] ، لكن اتخذوهم شركاء مع الله، فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقولوا: لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا الحديث لـ معاذ ويقصد به الأمة جمعاء، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمري لواحد منكم كأمري لكم جميعاً) .
وهكذا يضع صلى الله عليه وسلم القاعدة، وهي أن تكون العبادة لله وحده لا شريك له، ولذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال أحدهم: (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً، قل: ما شاء الله وحده) ، فلا نبي مرسل ولا ملك مقرب، وكل ما يخطر على بالك فليس له حق شعرة ولا جزء من مليون من شعرة في هذا الكون، يستحق لأجله شيئاً من العبادة مع الله.
وإذا تقرر هذا المبدأ لدى المسلم وأصبح خالص العبودية لله، فهل يستوي هو ومن يجعل مع الله إلهاً آخر، هل تستوي شخصية ونفسية الذي يعبد الله مع شخصية ونفسية الذي يعبد غير الله؟! بل وتجد الشخص الذي يعبد الحجر عنده شيء من الوهم، وعنده شيء من الوهن والضعف، لكن الذي يعبد الله وحده، كأن الدنيا كلها ملك له؛ إذاً: بعد تثبيت هذه القاعدة وإقرارها تأتي التفصيلات.