قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:(إن هذه الأمة أقل الأمم سؤالاً، ما سألت إلا اثني عشر سؤالاً، وكلها جاء الجواب عنها) .
والأسئلة تنقسم إلى قسمين: أسئلة تعنت وتعجيز، وأسئلة استفهام لبيان الفتوى في الواقع.
أما أسئلة التعنت والتحدي فكما بيّن لنا سبحانه أسئلة الأمم مع أنبيائهم، مثل قوم صالح حين سألوه أن يخرج لهم من الجبل ناقة، وهذا السؤال فيه تحدٍ، إذ كيف لجبل أصم أن ينتج ناقة فيها حياة؟! ولو طلبوها من البحر لكان يمكن أن تخرج ناقة من البحر، إذ فيه حيتان وحيوانات، أو من السماء لكان يمكن أن تنزل من السماء، فالله أعلم بخزائنه، لكن طلبوا ناقة من هذا الجبل الأصم! فهذا تحدٍ، ولذا كان هذا التحدي سبب إهلاكهم؛ لأنهم ما صبروا على الناقة فعقروها {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا}[الشمس:١٤] .
بنو إسرائيل قالوا لعيسى -وانظر إلى صيغة السؤال الذي يشف على عدم الحياء-: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ}[المائدة:١١٢] حسبنا الله ونعم الوكيل! من قال لهم: إن الله لا يستطيع ذلك؟! هو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، ولكن انظر إلى السؤال! فهو محض تحدٍ، والصيغة تدل على عدم الحياء وغياب الأدب، {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ}[المائدة:١١٢] ، خافوا ربكم! قالوا: لا، نريد أن نأكل، وهذا يشير إلى أنهم لا يؤمنون إلا ببطونهم!! والمشركون طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفجر لهم عيوناً، وأن يسير الجبال، وأن يجعل لهم جنات وأنهاراً، {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه}[الإسراء:٩٠-٩٣] ، يا سبحان الله! إلى هذا الحد! فأسئلة التحدي كانت سبباً للإهلاك، ورحم الله هذه الأمة فلم يهلكها بسبب تعنتهم في أسئلتهم؛ وذلك لمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال:٣٣] .
وقد أشار القرآن إلى ثلاثة أسئلة تعجيزية، وذلك أن المشركين قالوا لليهود: أنتم أهل كتاب، فأعطونا شيئاً نورده على هذا الرجل نسكته به، فقالوا: سلوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجابكم عن بعضها وترك بعضها فهو صادق، وإن أجابكم عنها كلها، أو ترك الإجابة عنها كلها فاعرفوا أنه كاذب، وشأنكم به.
قالوا: سلوه عن فتية في غابر الزمن كان لهم شأن، وسلوه عن الرجل الذي طاف الأرض إلى المشرق والمغرب وكان له شأن، وسلوه عن الروح، فرجعوا فرحين، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك حتى جاء الوحي، وأخبره عن الفتية أصحاب الكهف:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}[الكهف:٩] إلى آخره القصة، وقال الله:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[الإسراء:٨٥] ، وذو القرنين هو الذي له شأن في التاريخ الماضي، ولم يقل: يسألونك عن رجل طاف الأرض، ولا: يسألونك عن رجل صفته كذا، لا، وإنما قال جل وعلا:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا}[الكهف:٨٣] ، انظر كيف الجواب! وكل الأسئلة التي جاء في القرآن جوابها، فجوابها مباشر دون تمهل، ولكن هنا قال:{قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا}{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ}[الكهف:٨٤] ، فأول الجواب من قوله:(إنا مكنا) ، ولكن قل لهم وأسمعهم:(سأتلوا عليكم منه ذكراً) ، والتلاوة والذكر لشيء واحد، ولكن المتلو يكون ذكراً للعالمين، وأخبرهم صلى الله عليه وسلم بالوحي عن ذي القرنين بتفصيل ربما لم يكن عند اليهود تفصيله.
وهذه الأسئلة تبين لنا حقيقة الحكمة في نزول القرآن منجماً {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}[الفرقان:٣٢] ، فالكتب الأولى كلها نزلت جملة، فموسى جاء بالألواح وهي مكتوبة كلها، ثم عرضها على بني إسرائيل فامتنعوا من العمل بها حتى نتق الله فوقهم الجبل، قال الله:{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأعراف:١٧١] ، ولولا التهديد بالجبل فوق رءوسهم لما آمنوا، ولكن القرآن يأتي آية آية، يساير حياتهم ويعايشهم في كل ما يطرأ لهم، وكل مشكلة جاءت ينزل بحلها، وكل قضية واجهتهم يأتيهم بتوجيهها، فكانوا يأخذون القرآن آية آية، وحكماً حكماً، فما انتهت فترة الوحي إلا وقد استوعبوا الوحي كله.