[هل يقدم الإنسان الرجاء أم الخوف؟]
جاء في سيرة الحجاج -الذي سفك الدماء، وسعى في الأرض فساداً- أنه عند النزع في آخر أمره توجه إلى الله وقال: (يا رب! كل الناس يسيئون الظن بي، وأنا أحسن الظن بك) يا الله! مع سيرته الظالمة وأخلاقه السيئة وما سفك من دماء بريئة يقول هذا! والعلماء يأتون بمبحث لطيف ويقولون: هل الواجب على الإنسان والأولى له أن يغلِّب جانب الرجاء، أو يقدم جانب الخوف لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦] أو يجمع بينهما لقوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:٩٠] ؟ قالوا: المسلم كالطائر يطير بجناحين: جناح الرغبة وجناح الرهبة، فجناح الرغبة يدفعه إلى فعل الخير، وجناح الرهبة يمنعه من فعل الشر، فهو بين رغبة ورهبة، ولكن يقولون: إذا كان في نهاية عمره، أو عند عجزه فيقدم جانب الرجاء كما جاء في الحديث: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) ، أما إذا كان في شبابه وفي قوته وفي نوازع الهوى وفي مخاوف الفتنة فيقدم جانب الخوف.
إذاً: في حالة القدرة على العمل ومخافة الفتنة والوقوع في الشبهات وغيرها يكون جانب الخوف أسلم له، وإذا كان في الطرف الثاني فليقدم جانب الرجاء.
وهكذا يقولون في سلوك العبد مع الله سبحانه وتعالى وإعظام الرجاء في فضل الله، ويصور هذا بعض الشعراء بقوله: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فمن الذي يدعو ويرجو المجرم ما لي إليك وسيلة إلا الرجاء وجميل عفوك ثم إني مسلم وهذا تصوير الواقع -يا إخوان- فإن عظمت ذنوب الإنسان فليعلم بأن عفو الله أوسع.
الرسول صلوات الله وسلامه عليه في عودته من الطائف سلطوا عليه السفهاء وجاءه ما جاءه منهم، فوقف يدعو ربه: (اللهم! إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أو إلى قريب ملكته أمري! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي) ، فعفوا الله أوسع، فالإنسان قد يبتلى وقد يصبر وقد يتحمل، ولكن عفو الله أوسع، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:١٥٦] .
(يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء) ، وسيأتي بيان نوعية هذه الذنوب، ويهمنا قوله: (عنان السماء) ويقولون: العنان هو السحاب، ويقولون: إن هذا على سبيل التقريب، ولو بلغت إلى السماء الدنيا، مهما كثرت ذنوبك ثم استغفرت ربك يغفرها لك.
وقوله: (على ما كان منك) ، يقول بعض العلماء: ولو تكررت ذنوبك ثم استغفرت وبعد استغفارك عدت للذنب ثم استغفرت غفر لك، ولكن لا على سبيل التلاعب والتهكم والاستهتار، بل تصدُق عند استغفارك، يقول بعض السلف: (استغفارنا يحتاج إلى استغفار) ، يعني: استغفارنا ليس أكيداً، ولم يكن نابعاً عن قلب صحيح نادم راجع.
ولذا يقولون: الاستغفار هو عين التوبة، والتوبة إقلاع عن الذنب، وندم على ما مضى، وعزم على عدم العودة، فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة كانت توبة نصوحاً.
وإن قُدِّر بعد ذلك أن وقع في الذنب بدون إصرار سابق فإنه يستغفر، وقد جاء في الحديث: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) .
إذاً: مهما كان الذنب فلا يتعاظم إنسان ذنباً على الله، وشاهد ذلك قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم أتى إلى شخص عابد وسأله: هل لي من توبة؟ قال له: بعد قتل تسعة وتسعين نفساً! ليست لك توبة، فقتله فأكمل به المائة.
ثم بقيت نفسه تنازعه فأتى عالماً عارفاً فسأله، فأجابه العالم وقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟، تب إلى الله يقبل توبتك، ثم نصحه قائلاً: اخرج من هذه البلدة التي قتلت فيها مائة نفس، واذهب إلى القرية الفلانية ففيها رجال صالحون فاعبد الله معهم، فلما خرج أدركته المنية في الطريق، واختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ثم أرسل الله لهم ملكاً في صورة رجل وقال: قيسوا ما بين الأرضين، ثم أمر الله هذه بأن تمتد، وتلك بأن تنزوي، فصار أقرب إلى أهل الخير بذراع، فقبضته ملائكة الرحمة.
وفي الحديث: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة) .
إذاً: عمل بعمل أهل النار وأصبح يستحق النار، ولكن بلطف الله سبق عليه الكتاب، وتحوّل وعمل بعمل أهل الجنة، وكانت الخاتمة خيراً، والأعمال بالخواتيم.
وهكذا أيها الإخوة! يبين المولى سبحانه في هذا الحديث أنه لا يتعاظم الإنسان ذنباً على الله أبداً، ومهما كان عظم هذا الذنب فرحمة الله أوسع، ولكن يجب عليه في ذات الوقت التأدب مع الله، فلا تكون توبته ولا يكون استغفاره من باب التلاعب أو من باب التساهل.
ويذكر ابن رجب أثراً يعزوه إلى الترمذي (وفيه: (لا يتخذ الرجل امرأة حليلة وكلما قضى حاجته منها يستغفر الله، ثم يرجع إليها، فيقول الله له: لا، اتركها أغفر لك) .
أما كونك كل ساعة تعود للذنب، ثم ترجع وتقول: أستغفر الله، وأنت مصر على هذا؛ فلا.
وفي الأثر: (إن الله لا يغفر لثلاثة: -وذكر منهم- رجل يزني بامرأة وكلما قضى حاجته منها استغفر ثم رجع، ورجل يأكل مال غيره، وكلما أكل شيئاً قال: أستغفر الله، فيقول الله له: لا، اترك ماله أغفر لك) .
إذاً: الإصرار على الذنب ذنب.