للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استكانة العبد وتضرعه عند الدعاء من أهم أسباب الإجابة]

وقوله في هذا الحديث: (ما دعوتني ورجوتني) ، فيه أن أهم ما يكون في وقت الدعاء حالة الداعي، فحينما يدعو الإنسان في غير حاجة يكون دعاؤه عادياً، وحينما تلم به ملمة ويتوجه إلى الله بالدعاء يكون تعلقه بالله، وقلبه مع الله، ورجاؤه في عظيم فضل الله؛ أكبر وأعظم مما إذا دعا في أمر عادي.

ولذا فإن أحرى أوقات الإجابة حينما يتوجه العبد إلى الله بصادق النية، وبعظيم الرجاء، وهو يشعر بضعفه وحاجته إلى سعة فضل الله عليه.

ففي تلك اللحظة لا تسل: بم تسأل ربك أو بم تدعوه؟ ما جرى على لسانك من أسمائه الحسنى ودعوته به يكون توفيقاً من الله إليك بما يستجيب لك به.

ومن المشاهد أن كل إنسان حين يمر بمواقف أو بأزمات، ويتوجه إلى الله؛ فإنه في تلك الحالة يحس من نفسه بأنها ليست كالأوقات العادية.

ونتصور هذا في موقف يتكرر كثيراً وهو السعي بين الصفا والمروة، فسببه سعي هاجر عليها السلام، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسعوا فإن أمكم قد سعت قبلكم) .

وهاجر عليها السلام هي التي جاء بها إبراهيم عليه السلام ومعها طفلها إسماعيل، وتركهما في مكان قال تعالى فيه: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:٣٧] ، فلما أراد أن يرجع إلى الشام تبعته أم إسماعيل وقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، وقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا.

لقد أعلنت إيمانها ويقينها وتوكلها على الله بأنه لن يضيعها.

ذهب إبراهيم، وبقيت هناك وعندها سقاء فيه ماء، وعندما انتهى الماء الذي في السقاء، وبدأ يبكي الطفل عطشاً؛ قررت أنه لابد أن تأخذ بالأسباب مع إعلان توكلها على الله، (لا يضيعنا) ، فلم تجلس وتنتظر السماء أن تنزل عليها الماء، بل أخذت بالأسباب.

وهنا درس عملي يفيد بأن قوة التوكل على الله لا تمنع الأخذ بالأسباب، والأخذ بالأسباب لا يمنع التوكل على الله.

فسيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ظاهر بين درعين، أي: لبس درعين، والفارس لا يمكنه أن يلبس درعين أبداً؛ وذلك بسبب الوزن الذي يتوجب عليه حمله، فلا يمكنه من التحرك بيسر في المعركة.

فبالرغم من توكله على الله، وبالرغم من قول الله سبحانه وتعالى له: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧] ، مع كل ذلك يأخذ بالأسباب، ويأتي ويصف المسلمين، ويتدرع بالجبل من ورائه، ويضع الرماة على جبل الرماة حتى لا يأتيهم العدو من ورائهم خطط حربية مرسومة كاملة.

فكذلك هاجر، ما هي الأسباب التي أخذت بها؟ هي في بطن الوادي لا تستطيع أن ترى شيئاً، وإذا أراد الإنسان أن يستكشف مكاناً إلى أبعد مسافة ممكنة فإنه يبحث عن محل مرتفع ويشرف منه، فكان أقرب مرتَفَع لها في ذلك المكان هو جبل الصفا، فصعدت إلى الصفا ونظرت حولها فلم تجد شيئاً، ثم بحثت عن مرتفع آخر فلم تجد أقرب من المروة، فنزلت من الصفا إلى المروة، فلما انصبت قدماها في بطن الوادي اختفى عنها طفلها فأسرعت حتى جاءت إلى جانب الوادي الآخر، وحين رأت طفلها مشت مشياً عادياً، ثم صعدت على المروة وتلفتت حولها فلم تجد شيئاً، ثم لشدة تلهفها رجعت إلى الصفا، وهكذا.

وبتأمل هذا الموقف نجد أنها ما طلبت دون يقين بالله، ولا قطعت رجاءها في الله؛ لأنها متوكلة على الله، وكان الواجب عليها أن تأخذ بالأسباب، فأخذت بأسباب تقدر عليها، والتمست الفرج من الأرض على يد مخلوق من خلق الله فلم تجد، وتُركت تسعى إلى أن أكملت سبعة أشواط، وكلنا يدرك أنها في المرة الأولى لعلها كانت على أمل خمسين في المائة أو سبعين في المائة، ترجو أن تجد من يغيثها، فلما جاءت إلى المروة ولم تجد نزل هذا الأمل إلى ثلاثين في المائة، فلما جاءت إلى الصفا نزل هذا الأمل إلى خمسة وعشرين في المائة، ولما أعادت الكرة إلى المروة نزل إلى عشرة في المائة، وما أكملت سبعة أشواط إلا وقد انقطع رجاؤها من الخلق، وانقطعت آمالها في المخلوق وفي الأرض، وتوجهت بكل صدق إلى الله، فكانت الإغاثة حقاً، فجاء جبريل عليه السلام لا بسقاء ولا بقراب ولكن يشق الأرض فينبع الماء بزمزم.

لماذا لم يأتها جبريل من أول مرة؟ هي لم يكن عندها أحد، لكن كان يوجد في القلب نوع ميل ورجاء وأمل في مخلوق، فتُركت لما وجد في قلبها من ذلك النوع من الأمل في المخلوق، فسعت سبعاً، وكل مرة يقل رجاؤها في المخلوق، وكلما قلّ رجاؤها في المخلوق عظُم في الخالق، فالأمران متقابلان؛ كلما ضعف رجاؤها في المخلوق ابتعدت عنه واقتربت من جانب الله حتى انقطع الأمل تماماً في المخلوقين، وتوجهت بكليتها إلى الله، فكان الفرج الكبير، وهكذا يجب أن يكون المسلم.

(يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني) ، إذا كنت مع الدعاء قوي الرجاء وعظيم الرجاء في الله، فهناك يحصل المطلوب، أما أن تدعو بقلب لاه فقد جاء في الحديث: (لا يستجيب الله دعاءً من قلب غافل لاه) .

أي: تدعو ربك وأنت مشغول بغيره أو تدعو ربك وأنت تفكر بغيره.

وفيما وقفت عليه في ترجمة عطاء -أو بعض العلماء- في مكة، أن عبد الملك بن مروان -وهو خليفة- دخل الكعبة فوجده فيها، فقال: ألك حاجة يا فلان؟! قال: (إني لأستحي أن أسأل مخلوقاً وأنا في بيت الله) .

فمثلاً: إنسان ضيف عندك، وجاء ضيف ثانٍ، وله حاجة، فحينما يتوجه إليك بطلب حاجته يكون أقرب إليك وأحسن من أن يتوجه إلى هذا الضيف.

فلما خرجا إلى الخارج قال: الآن نحن خارج الكعبة، فسلني حاجتك.

قال: والله ما سألت الدنيا ممن يملكها، فلا أسألها ممن لا يملكها.

حينما كان داخل الكعبة كان قلبه مع الله، واستشعر أنه من قلة الحياء أن يكون في جوف الكعبة ويسأل مخلوقاً: أعطني كذا، كيف ورب البيت أقرب؟! وهكذا الإنسان حينما يكون رجاؤه عظيماً بالله، وقلبه متعلقاً بالله، وفي وقت الشدة يكون أقرب إلى الله، تكون الطاقة في التوجه قوية جداً.