[ثبوت أنه يفسح للمؤمن في قبره مد بصره]
قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حق المؤمن: (ويفسح له في قبره مد البصر) ، هنا بعض الناس كما يقول الطحاوي وابن كثير: يدخلون العقل فينكرون ما جاء في خبر القبر.
والعجب الذي نريد أن ننبه عليه: ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية، وهو عالم محدث ليس عرافاً: يذكر في قضية العلاء بن الحضرمي لما ذهب إلى البحرين غازياً لهم فوجدهم قد حازوا السفن إليهم، ودخلوا في جزيرتهم، وكان قد سار حوالي شهرين من المدينة إلى البحرين، فيقف يطالع في البحر والعدو قد انحاز بسفنه إلى الجزيرة، فماذا فعل؟ حينما كان يمشي في الصحراء نفذ ماؤه وماء السرية معه، وكادوا يموتون عطشاً وهم كما يقولون: في الدهناء لا ماء ولا شجر، فدعا الله تعالى؛ فإذا بالمولى سبحانه يغيث جنده، فيرون سحابة جاءت في الظهيرة تأتي على مرأى العين تقصدهم حتى إذا كانت فوق رءوسهم وقفت وتكاثفت وأمطرت عليهم الماء، فشربوا واغتسلوا وسقوا دوابهم وملئوا قربهم ومشوا في أمان الله.
فلما وصلوا إلى البحر ووجد السفن قد ذهبت بأهلها التفت إلى أصحابه وقال: أيها الناس! إني عازم على أمر، لقد أراكم الله في البر آية وهو قادر على أن يريكم في البحر آية، إني عازم على أن أخوض هذا البحر، وتقدم إلى البحر وقال: أيها البحر! إنك تجري بأمر الله ونحن جندٌ في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن لنعبر نقاتل عدو الله! انظروا الأوامر من أين جاءت، انظروا إلى صياغة القرارات، أنت تجري بأمر الله، ونحن لسنا ذاهبين لتجارة ولا لزيارة ولا لغرض نفسي، بل جندٌ في سبيل الله، ونحن وأنت من جنود الله، وما دام الأمر كذلك فقد عزمت عليك لتجمدن لنعبر نقاتل عدو الله، الذي أنا وأنت تحت أمره، وخاض البحر.
يقول ابن كثير: فما ترجل الفارس ولا واحتفى المنتعل، أي: الذي هو راكب ما نزل، كان لابساً نعله ما خلعه، وعبروا إلى الجزيرة وقاتلوا عدو الله وانتصروا: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:٤٠] ، فالله ربنا لا يريد منك قوة، فالقوة من عند الله، لكن يريد منك اتجاهاً إليه، وهو يسخر لك العوالم.
لما جاءوا راجعين أدركه مرضٌ في عنقه ومات منه، فدفنوه حيث كانوا، فجاء نفرٌ من أهل تلك الأرض، وقالوا لهم: إن كان ميتكم عزيزاً عليكم فلا تتركوه هنا؛ لأن هذه الأرض إذا جاء الليل تلفظ الموتى ولا تقبلهم، فقالوا: والله ما من حق ابن الحضرمي أن نتركه نهب السباع، فرجعوا إلى قبره وحفروا القبر ونبشوه فما وجدوا فيه شيئاً، ووجدوا القبر مد البصر.
هل يستطيع أن يتدخل العقل في هذا؟ لا.
يقول الطحاوي رحمه الله: وليس ذلك بالغريب أن يكون القبر روضة من رياض الجنة، وبجواره قبراً آخر هو حفرة من حفر النار؛ لأن الله سبحانه قادر على أن يجعل حجارة القبر محماة حارة على صاحبها ونحن لا نشعر، ولو لمسناها لأدركنا ذلك، وإني لأعجب والله لعقلية هذا العالم الجليل، بل أقول: إن هذا فتحٌ من الله على لسانه، نحن الآن وهذا السلك فيه كهرباء نمسكه كالثلج، وإذا لامس التيار بعضه بعضاً كانت النار المحرقة، ولو انكشف عن هذا الحاجز العازل ولمسه البعير ولمسه أقوى إنسان لصعق في الحال؛ أين النار في هذا؟! الله سبحانه بقدرته قادر أن يجعل القبر بطبيعته ناراً على صاحبه وجاره لا يدرك شيئاً، بل أنت الآن تأتي إلى بيتك تفتح الثلاجة فتجد ثلجاً، وتلمسها من وراءها فإذا هي نار حامية، فلا حرارة الأسلاك خلفها تذيب الثلج، ولا الثلج يطفئ حرارة ما في ظهرها، وإذا كان صنع البشر بتمرير مادة باردة بطبيعتها تدفعه وتتحرك وتوجد هذا التبريد، فالمولى سبحانه أقدر على ذلك.
إذاً: لا ينفي عذاب القبر وأحواله إلا جاهل معاند، وإذا ذهب هناك فسوف يعاين الحق.
إذاً: أول مراحل القيامة البرزخ، وكما قال العلماء: ولو أنه أحرق وذرّ في التراب فهو في برزخ؛ يجد السؤال والعذاب أو النعيم، كما جاء في حديث الرجل: كان فيمن قبلكم من أوصى أهله إذا مات أن يحرقوه ويسحقوه، وفي يوم شديد الريح وعلى حافة البحر يذروه على أمواج المياه، ففعلوا ذلك، فأمر الله الرياح فجمعت ما أخذت، وأمر الله الأمواج أن ترد ما أخذت، وجمع الله خلقته كما كان، وسأله: لم فعلت هذا؟ قال: مخافة منك يا رب، قال: قد غفرت لك.
إذاً: القبر هو البرزخ مهما كانت حالة الإنسان فيه.