في الرواية الأخيرة أن وابصة قال: وكيف ذلك؟ أي: كيف أعرف أن قلبي قد اطمأن؟ فقال:(ضع يدك على قلبك، فإن القلب يطمئن للحلال، ولا يطمئن للحرام) ، والآن عند التحقيق مع المجرم يضع المحقق يده في قلب المتهم مثل الطبيب الذي يكشف عليه، فإذا وجه إليه سؤالاً في صميم الموضوع نبض قلبه بسرعة، وإذا كان السؤال بعيداً عن الموضوع وليس فيه ريبة، فإن النبض معتدل، فيستدل بتغير نبضات القلب مع تغير الأسئلة على حالته النفسية وعلاقته بالجرم، وهذا مذكور في علم الجنايات.
وهنا نأتي إلى لفتة صغيرة لإخواننا طلبة العلم الذين يجدون في أنفسهم الكفاءة للاجتهاد، ويعرضون عن فهم السلف رحمهم الله، ويستبدون بآرائهم في الفقه والفتوى حينما تكون المسألة لا نص فيها، أو فيها خلاف كثير، فنقول لهم: لا ينبغي لكم هذا، لا سيما في معرض الاستفتاء، فلو قدر أنه اجتمع الأئمة الأربعة وأصحابهم وأنت معهم، وعرضت قضية لا نص فيها، وتردد فيها النظر، فرجعت الفتوى إلى القلب، فأي القلوب أولى أن نأخذ بطمأنينتها؟ قلوب السلف بلا ريب، فلو مرت مسألة ليس فيها نص على سلف الأمة، واجتهدوا فيها وأفتوا، وكانت الفتوى صادرة بما اطمأنت إليه قلوبهم، فإذا عرضت عليك اليوم هذه المسألة، واستفتيت قلبك، وكان لك رأي فيها، ولسلف الأمة ذوي القلوب الحية والقلوب المستنيرة رأي فيها، وخالف رأيك رأيهم فيها، فما هو الحكم؟ وما الذي ترجح؟ وما الذي تعمل؟ هل تأخذ بفتوى قلبك وطمأنينته أو بفتوى أولئك الأخيار الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير؟ تأخذ بفتوى السلف، فكلنا يعلم بمدى تقواهم، ومدى ورعهم، ومدى علمهم، ومدى فتح الله عليهم، ولو قيس علمنا بأولئك ما وصلنا إلى عشر علمهم وتقواهم، فماذا نفعل؟ هل نضرب بأقوال سلف الأمة عرض الحائط، ويقول القائل: أنا نفسي مطمئنة لهذا؟ لا، فيجب عليك أن تحتقر نفسك، ولا تتبع هواك؛ لأنه إذا كانت المسألة متوقفة على طمأنينة القلوب، فأولى المقاييس هي: قلوب الصالحين من سلف هذه الأمة، فإذا كان لهم رأي، وأنت لك رأي مغاير لآرائهم، فهل تتهم رأيك أو تتهمهم؟ فعلى طالب العلم قبل أن يستبد بحكم مسألة أو رأي أن يستنير بأقوال السلف، وينظر ماذا قالوا فيها، وما هي وجهة نظرهم.
يقول بعض العوام: الحيوان يعرف البر من الإثم! وذلك بالطمأنينة والقلق، فسمعت من بعض كبار السن يقول: الغنمة تعرف الحلال والحرام، فقلت: كيف هذا؟! قال: هل عندكم غنم؟ قلت: عندنا، قال: وهل الجيران عندهم غنم؟ قلت: عندهم، قال: ارم البرسيم في الشارع، فيجتمع غنم الشارع كله ويأكل منه، وتجد الغنم حق الناس تجري، وغنمكم واقفة، لماذا؟ لأن غنمك تعرف أنه برسيمك، وغنم الجيران تعرف أنها معتدية وليس لها حق فيه، وهذا كلام صحيح.
قال: حتى القطة إذا كنت تأكل، وجاءت إليك فأعطيتها، فإنها تأكل بجانبك، لكن لو خطفت منك شيئاً، فهي تعرف أنه ليس لها حق فيه، فتشرد بها، لتأكلها بعيداً عنك!! إذاً: الحيوان يدرك الحلال من الحرام، والحلال البين ليس فيه استفتاء، والحرام البين ليس فيه استفتاء، ولكن الاستفتاء فيما كان بينهما، وهذه المنزلة والمرتبة -كما يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه-: شفافة جداً،ومقياسها التحرج، قال عليه الصلاة والسلام:(دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ، فإذا حصل في النفس حزازة، وحصل في النفس احتكاك، والصدر ليس بقادر أن يستريح بها، فاتركها، وإذا تركتها استرحت.
وقوله عليه الصلاة والسلام:(وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، هذه مسألة نسبية، ولكن الإنسان من جبلته ألا يمتنع أن يرى الناس منه العمل الحسن، ويكره أن يرى الناس منه العمل السيئ، فهذا الحديث يعتبر مقياساً لشفافية القلوب فيما بينها وبين الله.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا ونواصيكم إلى الحق، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.