قوله:(إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها) : هذه التوفية والوفاء بغير نقصان، كما قال الله تعالى:{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف:٤٩] ولماذا الإحصاء؟ فالمولى سبحانه إذا حاسب العبد من عنده بدون إحصاء ولا كتابة فلا أحد يملك الاعتراض عليه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[مريم:٦٤] وهو لا ينسى عمل أحد ولا يحتاج إلى إقامة الأدلة على أحد ولكن يكتبها لإقامة العدل ونفي الظلم الذي بدأ في الحديث أولاً: (حرمت الظلم) ، وعند الحساب يأتي بالبينة:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:١٤] .
يوم تشهد عليهم الأيدي والألسن والأرجل، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}[فصلت:٢١] ، أتنكر يا عبدي؟! ألم تفعل كذا وكذا؟ فيقول: ما فعلت، فتقول اليد: ضربت وقتلت وسرقت، وتقول اللسان: اغتبت وكذبت وقلت، وكل الأعضاء تشهد بما عملت.
وإذا كان رب العزة يقضي بالبينة، فكيف تقضي أنت يا أيها العبد بغير بينة؟ ولذلك أجمع الأئمة الأربعة وغيرهم على أن القاضي في منصة الحكم لا يقضي بعلمه، فلو مشى في الطريق ورأى زيداً يسرق بيت عمرو ومن الغد جيء بالسارق بين يديه، وجاء عمرو يقول: هذا سرق بيتي، فعليه أن يقول: أنا الآن في منصة القضاء ولابد من البينة؛ فإن جاء بشهوده قضى بمقتضى الشهود، وإن لم يأت لم يجز له أن يقضي بما علمه هو.
ولذا جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه:(أن رجلاً اشتكى إليه في قضية حصلت أمام عمر، ثم بعد ذلك حصلت فيها منازعة، فجاء المدعي وقال: يا أمير المؤمنين! القضية كذا وكذا، قال: بينتك، قال: أنت تعلم، قال: إن أردتني قاضياً فائتني بشهود، وإن أردتني شاهداً فاحتكم عند غيري واستشهد بي) .