[من صفات الزاهدين في الدنيا]
انظر إلى وصف أولئك الذين وعدهم الله بالجنة التي هي خيرٌ من زينة الدنيا ومتاعها، فمن هؤلاء أصحاب النعيم؟ قال الله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٦] ، ليس الإنسان معصوماً من الذنب، ولو لم يكن هناك ذنب، وطلبوا المغفرة فإن ذلك علو في درجاتهم، كما هو حال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ويقول: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) ، ويحث على الاستغفار فيقول: (إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة) وفي رواية: (مائة مرة) .
ولذا قالوا: استغفاره صلى الله عليه وسلم علو في درجاته، وبعضهم يقول: يستغفر للمؤمنين؛ لكن هذا جانب وذاك جانب آخر، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:٣] .
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٦] ، وهذه هي صفات الزُّهَّاد حقاً، فمَن اتصف بهذه الصفات فهو الزاهد حقاً، وما هي صفاتهم؟ قال الله: {الصَّابِرِينَ} [آل عمران:١٧] : الصابرين على ماذا؟ على تلك الشهوات التي زُيِّنت لهم، فإذا لم يجدها إنسان من هؤلاء {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} ، فماذا يكون موقفه؟ كما قال الله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:٣٣] ، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) ، والصوم هو عين الصبر.
{الصَّابِرِينَ} : عن معصية الله، وعلى قضاء الله، وعلى أداء طاعة الله، وكل ما يمكن أن تأتي به من أفعال الخير والقربات والمكرمات والمروءة والإنسانية، فإنه يدخل تحت عنوان: {الصَّابِرِينَ} وأقوال العلماء في وصف الزاهدين تدخل تحت هذه الصفات الآتية.
إذاً: أول صفات الزاهدين حقاً أو المؤمنين حقاً الذين لم تغرهم زينة الحياة الدنيا: الإيمان واللجوء إلى الله وطلب المغفرة: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ، ثم: {الصَّابِرِينَ} .
ثانياً: {وَالصَّادِقِينَ} [آل عمران:١٧] ، الصادقين في كل شيء، وليس في الحديث فقط، فالله يقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:٢٣] ، الصدق في التعامل مع الله، الصدق في التعامل مع الناس، الصدق في التعامل مع النفس، الصدق في التعامل مع كتاب الله وسنة رسوله، فالصادقين عنوان عام في كل ما أتوه.
ثالثاً: {وَالْقَانِتِينَ} [آل عمران:١٧] : سبحان الله! (صابرين) و (صادقين) ! ولعل مجيء (صابرين) أولاً يوحي بأن الصدق يحتاج إلى صبر، فقد يحدث لإنسان موقف، والصدق قد يؤذيه أو يحمِّله مشقةً؛ لكن لم يضيع مبدأ الصبر، وانطلاقاً من الصبر تصدُق وتقول الحق وتتعامل بالصدق، فإذا كان صابراً صادقاً يأتي القنوت مع الله، والقنوت: الطاعة والخشية والخشوع والخضوع.
رابعاً: {وَالْمُنْفِقِينَ} [آل عمران:١٧] ، هؤلاء الصابرون الصادقون القانتون لهم في الدنيا الأموال والقناطير المقنطرة التي زُينت لهم وامتلكوها، فماذا فعلوا بها؟ أنفقوها، وفي حديث أبي هريرة: (لو كان لي مثل جبل أحد، ولقلت به هكذا وهكذا، ولا يبقى عندي منه شيء) ، ثم هو إنفاق إجمالي في كل أوجه الإنفاق، كما سيأتي في نظيرها في سورة الحديد {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [الحديد:١٨] ، فينفقون في كل أوجه الإنفاق وسبل الخير، مساعدة ضعيف، إعطاء فقير، تجهيز غازٍ، علاج مريض، كل أنواع الإنفاق التي جاءت أيضاً في سورة البقرة: {سِرّاً وَعَلانِيَةً} [البقرة:٢٧٤] ، {فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران:١٣٤] ، في كل أوجه الخير، وعلى جميع الحالات.
خامساً: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:١٧] وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل يصلي ويستغفر في السحر.
وفي الحديث الصحيح: (إذا كان ثلث الليل الآخر، ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟) .
إذاً: هذه هي صفات المؤمنين حقاً، وهي صفات الذين سلموا مما زُيِّن للناس من حب الشهوات، ولم يقفوا عندها.
ثم قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:١٨-١٩] فهم التزموا به، وأقاموا حدوده وتعاليمه، هذا هو الموطن الأول في هذه السورة.