وصورة بيع الحاضر للبادي المنهي عنه: أن يحمل البدوي أو القروي متاعه إلى البلد ليبيعه بسعر يومه، فيأتيه البلدي فيقول: ضعه عندي؛ لأبيعه على التدريج بزيادة سعر، وذلك إضرارٌ بأهلِ البلدِ، وحرامٌ إن علم بالنهي.
وتصرف الفقهاء من الشافعية في ذلك، وقيدوا عدم التحريم بشروط:
منها: ألا يكون المتاع المجلوب إلى البلد محتاجًا إليه في البلد، ولا يؤثر فيه لقلة ذلك المجلوب.
ومنها: عدم علم البلدي بالنهي.
ومنها: ألَّا يكون المتاع مما تعم به الحاجة إليه في البلد، دون ما لا يحتاج إليه إلا نادرًا.
ومنها: ألَّا يدعو البدوي البلدي إلى تأخير بيعه عند حاجة أهل البلد، فلو دعا البلدي البدوي، أو كان المجلوب مما بأهل البلد حاجة إليه في ذلك الوقت، أو كان عالمًا بتحريمه، أو كانت الحاجة إليه غالبة، أو كان المجلوب يؤثر في دفع ضرورة أهل البلد إليه لقلته، كان حرامًا، وإلا فلا يحرم.
واعلم: أن المعنى في تحريم بيع الحاضر للبادي وسببه: الرفق بأهل البلد، واحتمل فيه غبن البادي، ومنع من تلقِّيه، نظرًا إلى المصلحة العامة للناس، واغتفار عدم مفسدة مصلحة واحد على الجماعة، فلما كان البادي إذا باع بنفسه انتفع ببيعه جميع أهل السوق، واشتروا رخيصًا، فانتفع به جميع سكان البلد، قدَّمَ الشرع مصلحتهم على مصلحته، ولما كان المتلقي ينتفع هو خاصة دون الناس، حرم عليه التلقي، ومنع منه؛ نظرًا لمصلحة الناس عليه، فكل من البادي والمتلقي متفق في الحكمة والمصلحة، والله أعلم.
واعلم: أن أكثر الأحكام تدور بين اعتبار المعنى، واتباع اللفظ، وينبغي أن ينظر في المعنى إلى ظهوره وخفائه، فإن ظهر ظهورًا كثيرًا، فلا بأس باتباعه، وتخصيص النص به، أو تعميمه على قواعد القياسيين، وإن خفي ولم يظهر ظهورًا قويًّا، فاتباع اللفظ أولى.