للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذوات الدَّاخلة في آخر النهار، فإذا أَخْرَجْتَ تلكَ الذَّواتِ، فقد أَخْرَجْتَ ما دلَّت الصيغةُ على دخوله، وهي كل ذات، وهذا الحديث أحد ما يُستدلُّ به على ما قلناه؛ فإن أبا أيوبَ من أهل اللسان والشَّرع، وقد استعمل قوله: "ولا تَسْتَقْبِلُوا وَلا تسْتدبِرُوا" عامًّا في الأماكن، وهو مطلقٌ فيها، وعلى ما قال هؤلاء المتأخِّرون لا يلزمُ منه العموم، وعلى ما قلناه يعمُّ؛ لأنه إذا خرج عنه بعض الأماكن، خالف صيغَة العموم في النَّهي عن الاستقبال والاستدبار. هذا آخرُ كلامه، وهو نفيس - والله أعلم - (١).

أمَّا استغفارُ أبي أيوبَ وأصحابه، فلأن مذهبَه تحريمُ الاستقبال في البنيان كما ذكرنا، ولا يتأتَّى له الانحراف الكاملُ في قعوده إلا بحسب إمكانه، فاستغفرَ احتياطًا، ولا يُظَنُّ به أنه كان يفعلُ ما يعتقد تحريمَه، وقيل: استغفارهم لبانيها، وفيه بُعدٌ من وجهين:

أحدهما: أن تعقيبَ الوصفِ للحكم بالفاء والعطف عليه يشعرُ بالعلِّيَّة، فالحكم: المنعُ من الجلوس إلى القبلة، والوصفُ: الانحرافُ المعقَّبُ بالفاء، والعطفُ عليه بالاستغفار.

الثاني: الظَّاهر أن المراحيض بناءُ الكفار في الجاهلية، فكيف يجوز الاستغفار لهم؟ مع أنَّه - صلى الله عليه وسلم - استأذَن ربه في الاستغفار لأمِّه، فلم يُؤذَنْ له، واعتذر في الكتاب العزيز عن استغفارِ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لأبيه، وأنه تبرَّأ منه -والله أعلم-.

ويُحتَملُ: أَن استغفارَه لِمَنْ بناها من المسلمين جاهلًا على اعتقاده.

وقيل: استغفارُه من ذنوبه، فالذَّنبُ يُذَكِّرُ بالذَّنب، لكِن احتمالَ استغفارِه لِمَنْ بناها من المسلمين جاهلًا أو غالطًا أو ساهيا بعيدٌ جدًّا؛ لكونه غيرَ آثمٍ، إلا أَنْ يكونَ استغفرَ على مذهب أهل الورع والرُّتب العليَّة في نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في التَّحفظ منه -والله أعلم-.


(١) انظر: "شرح عمدة الأحكام" (١/ ٥٤ - ٥٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>