ولا شك أن الصحة في هذه المُطْلقة أولى من المقيدة بعودها إليه بعد عود الموهوب له، أو إلى ورثته؛ لعدم اشتراط شرط يخالف مقتضى العقد، والذي ذكر في الحديث؛ من قوله: قضى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بالعمرى، يحتمل حمله على هذه الصورة من الإطلاق، وهو أقرب؛ إذ ليس في اللفظ تقييد، ويحتمل على أن يحمل على ما أعمره مدة حياته مقيدًا، برجوعها إليه بعد موته، وهو مبين بالكلام في الرواية الأخرى، ويحتمل أن يحمل على جميع الصور المطلقة والمقيدة، إذا قيل: إن مثل هذه الصيغة من الراوي تقتضي العموم، وفي ذلك خلاف بين الأصوليين.
وثالثها: أن يعمرها ويشترط الرجوع إليه بعد موت المعمَر، وفي صحتها خلاف عند أصحاب الشَّافعي: الأصح عندهم: الصحة؛ لإطلاق الأحاديث في العمرى من غير تقييد، وعدلوا بذلك عن قياس الشروط الفاسدة؛ تقديمًا اقتضى الحديث على القياس، وإنَّما جرى الخلاف في هذه الصورة؛ لما فيها من تغيير وضع الهبة.
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: صحة العمرى مطلقًا.
ومنها: أن الموهوب له يملكها ملكًا تامًّا، يتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات، وبصحتها وملكها قال الشَّافعي وأصحابه، وقال أحمد: تصحُّ العمرى المطلقة دون المؤقتة، وقال أبو حنيفة: بنحو مذهب الشَّافعي، وهو قول الثوري، والحسن بن صالح، وأبي عبيد، وقال مالك في أشهر الروايات عنه: العمرى في جميع الأحوال تمليك لمنافع الشيء المعمور دون رقبته؛ كمنافع الدار مثلًا، دون رقبتها.
ومنها: الأمر بإصلاح الأموال باتِّباع الشرع في التصرف فيها قبضًا وصرفًا.
ومنها: النَّهي عن إفسادها بمخالفة الشرع قبضًا وصرفًا.
ومنها: أن الهبة يملكها الموهوب له مدة حياته، وتورث بعده، ولا يرجع فيها الواهب، لا في حياته، ولا بعد موت من وهبت له.