للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولا شك أن الله -سبحانه وتعالى- له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته؛ تنبيهًا على شرفها، فقد أقسم الله -سبحانه وتعالى- بعمر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: ٧٢]، وأقسم بالعصر، وبالشمس وضحاها، وبالقمر، وبغير ذلك مما في الكتاب العزيز؛ وذلك لأنه -سبحانه وتعالى- العظيم المطلق، يحكم ولا يُحكم عليه، فله أن يقسم بما شاء، والعباد متصرَّفٌ فيهم مقيدون، فلا يقسمون إلَّا بما أذن لهم فيه، وهو الحلف بأسماء الذات والصفات العلية كما قاله العلماء.

فإن قيل: هذا الحديث مخالف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْلَحَ وَأَبِيهِ" (١) فقد أقسم بأبيه.

والجواب: أن هذه كلمة تجري على اللسان لا يُقصد بها اليمين.

وأما معنى قول عمر -رَضِيَ الله عَنْهُ-: فوالله ما حلفت بها بعد النهي ذاكرًا؛ أي: قائلًا لها من قبل نفسي، ولا آثرًا -بمد الهمزة-؛ أي: أروي عن غيري أنَّه فعله.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فمنْ كانَ حالِفًا، فليحلف بالله أو ليصمُتْ"؛ معناه: أن الحلف لا يكون إلَّا بالله، فمن أقسم، فليقسم به -سبحانه وتعالى-، وإلا فليصمت.

وظاهر الأمر بالصُّمات: الوجوب، ومخالفته التحريم، ويؤيد ذلك ما رواه التِّرْمِذِيّ وغيره: أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: قال: "من حلفَ بغيرِ اللهِ فقدْ أشركَ" (٢)، لكن قال أصحاب الشَّافعيّ وغيره: هو مكروه، ليس بحرام، وقال غيرهم: هو حرام، والخلاف في ذلك موجود عند المالكية، والله أعلم.


= الباري" لابن حجر (١١/ ٥٣٥).
(١) تقدم تخريجه في حديث طلحة بن عبيد الله -رَضِيَ الله عَنْهُ- في قصة الرَّجل الذي وإن يسأل عن الإِسلام.
(٢) رواه التِّرْمِذِيّ (١٥٣٥)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، وقال: حسن، وأبو داود (٣٢٥١)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء، والامام أَحْمد في "المسند" (٢/ ٦٩)، وابن حبان في "صحيحه" (٤٣٥٨)، والحاكم في "المستدرك" (٧٨١٤)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

<<  <  ج: ص:  >  >>