وحمل بعضهم النهي على نذر يُقصد به تحصيل غرض، أو دفع مكروه؛ حيث إنه قال - صلى الله عليه وسلم - في سياق الحديث:"وإنَّما يُستخرجُ به من البخيل"؛ نظرًا إلى أن المنذورات ودفعها إلى مواضعها إنما يكون لقصد ابتداء الشرع بها، وفي إخراجها، لا لما للناذر فيه حظ؛ فإن الذي يستخرج منه الشيء لإلزامه نفسه إياه بسبب هو أنشأه ليس هو كمن كان ابتداؤه وانتهاؤه أمر الشرع.
ولا شك أن القواعد التي ذكرها العلماء تُشْكل على هذا؛ حيث قالوا: إن وسيلة الطاعة طاعة، ووسيلة المعصية معصية، ويعظم قبح الوسيلة بحسب عظم المفسدة، وكذلك تعظم فضيلة الوسيلة بحسب عظم المصلحة.
ولما كان النذر وسيلة إلى التزام قربة، اقتضى أن يكون قربة، إلَّا أن الحديث دل على خلافه، لكن لما دلت القواعد على أن الوسائل تُعطى حكمَ المقاصد، اقتضى النهي في الحديث أن يكون مكروهًا لا محرمًا؛ لأنه إذا اجتمع في الوسائل والمقاصد الطاعة المحضة، اقتضى الطلب المحض؛ إما للوجوب، وإما للندب؛ على حسب موارد الشرع فيه، وإذا كان في الوسائل منع، وفي المقاصد طلب، اقتضى الكراهة في الوسائل دون المقاصد، وإذا كان فيها كلها المنع، اقتضى التحريم، فلا إشكال في القواعد، ولا في الحديث.
وفي الشرع كذلك نظائر في المناهي التي يترتب عليها الوجوب من الكفارات والغرامات، ونحو ذلك، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملًا، أثبته؛ حيث إن عمله كان بالشرع لا بالالتزام؛ لأن ما كان لله تعالى، ثبت، وشرع ثبوته، وما كان للحظ والنفس، لم يثبت، ولم يشرع ثبوته، وما كان بعضه بالحظ الشرعي، وبعضه بالنفس، كان مطلوبًا من حيث الحظ الشرعي، ممنوعًا من حيث النفس، فافهم ما حققته لك تجدْ ثمرته -إن شاء الله تعالى-، والله أعلم.
وقد ذكر المازري في سبب النهي عن النذر احتمالين:
أحدهما: كون الناذر يصير ملتزمًا له، فيأتي به على سبيل التكلف من غير نشاط.