الثاني: إتيانه به على سبيل المعاوضة، لا على سبيل القربة، فينتقص أجره للأمر الذي طلبه؛ فإن العبادة شأنها أن تكون لله -عَزَّ وَجَلَّ- متمحضة.
وذكر القاضي عياض احتمالًا ثالثًا؛ من حيث إن بعض الجهلة قد يظن أن النذر يرد القدر، ويمنع من حصول المقدَر، فنهى عنه؛ خوفًا من اعتقاد جاهل ذلك، وهذا يؤيده سياق الحديث الذي في "صحيح مسلم" في بعض طرقه: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر، وقال:"إنه لا يردُّ من القدر شيئًا"، وفي رواية:"فإنَّ النذَر لا يُغني من القدر، وإنما يُستخرجُ به من البخيل"(١)، والله أعلم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّه لا يأتي بخير"؛ الباء في قوله:"بخير،: يحتمل أن تكون باء السببية؛ كأنه قال: لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر وطبعه؛ فإن طلب القربة والطاعة من غير عوض، يحصل له وإن ترتب عليه خير، وهو فعل الطاعة التي نذرها، لكن سبب ذلك الخير: حصول غرضه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما يُستخرجُ به من البخيل"، معناه: أنَّه لا يأتي بهذه القربة التي هي الوفاء بالنذر تطوعًا محضًا مبتدأَ به، وإنما يأتي به في مقابلة ما قصده؛ من طلب حاجته مما علق النذر عليها، وهذه صفة البخلاء أنَّهم لا يعوضون إلَّا في مقابلة معوض دنيوي، بخلاف الكرماء: فإنهم لا يفعلون أمرًا من إعطاء ومنع، إلَّا لمعوض أخروي، وقد جعل الشارع مقام ذلك الصدقات أمام الحاجات، والاستشفاء بالصدقات والرقى والدعوات، ومعلوم أن ذلك لا يكون معاوضة لله -عَزَّ وَجَلَّ- على مطلوب فاعله، وإنما يكون تقربًا بطريقة في طلب حاجته، نعم يجوز التعويض للآدميين في الرقى المشروعة ونحوها، وليس هذا من النذر في شيء، والله أعلم.
وفي هذا الحديث دليل: على كراهة النذور، وأنها للتنزيه.
وفيه دليل: على إخلاص العمل وأسبابه لله تعالى، سواء كان بدنيًّا أو ماليًّا.