للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في أمور مخصوصة، لا في الأحكام العامة. وعلى هذا دل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر"، ولا شك أن الحصر يكون عامًّا وخاصًّا، وهذا من الخاص الذي يتعلق بالحكم بالنسبة إلى الحجج الظاهرة.

وفيه: أن الحاكم لا يحكم إلا بالظاهر؛ مما طريقه الثبوت بالبينة أو الإقرار، ولا يحكم بما يعلمه في الباطن مخالفًا لما ثبت في الظاهر، ولا عكسه، وقد نقل الإجماع فيه، فلو علم شيئًا بطريقه الشرعي خبرًا يقينًا أو ظنًّا راجحًا، أو شاهده من غير بينة، أو إقراره في حال الدعوى أو قبلها، فهل يحكم بعلمه؟

فيه أوجه في مذهب الشافعي: رجح مرجحون أنه يحكم بعلمه في غير حدود الله دونها، وقيل: يحكم، ورجح آخرون: أنه لا يحكم بعلمه أصلًا، وهذا مما عمل فيه بالظن مع وجود القطع فيه، وله نظائر؛ منها: إن كان معه ماء طاهر بيقين، ومعه إناء [فيه ماء نجس]، إن اشتبه الطاهر بالنجس منهما، جاز له الاجتهاد، والطهارة بما أدى إليه اجتهاده، وهو ظني مع وجود الطاهر بيقين توسعةً، إلا أن حكم الحاكم بعلمه مفسدة زائدة، وهي بطريق الظنون الفاسدة إلى غرضه، وقد تنجر المفسدة إلى تشبيه غير المتيقن به، وكلاهما تطلع الشرع إلى تركها، فلهذا جوز الحكم بالظن مع وجود القطع، بخلاف ما إذا كان الظن مخالفًا للعلم، فإنه لا يحكم إجماعًا، والله أعلم.

واعلم أن لله -عَزَّ وَجَلَّ- أحكامًا شرعية في ظاهرك، وأحكامًا شرعية في باطنك، وأحكاما مشتركة في ظاهرك وباطنك. فاليهود نفت الأحكام الباطنة، فضلوا، والنصارى نفت الأحكام الظاهرة، فضلوا، والمسلمون أثبتوا الأحكام كلها جمعًا وإفرادًا، فاهتدوا، فما كان في ظاهرك أثبتوه في محله، وما كان في باطنك أثبتوه في محله، وما كان فيهما أثبتوه فيهما.

مثاله: العدالة لا تثبت إلا ظاهرًا وباطنا، فلا يكون عدلًا إلا من اتصف بها ظاهرًا وباطنا، فمن اتصف بها في ظاهره دون باطنه، وعكسه، لا يكون عدلًا، وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على هذه القاعدة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلعل بعضَكم أن يكونَ أبلغَ من بعضٍ فأحسبُ أنه صادقٌ فأقضي له" إلى آخره.

<<  <  ج: ص:  >  >>