إنشاء تحرزًا عن الحرام، وحديثهما صريح في المال، قال: ونحن نقول به؛ فإن قضاء القاضي في الأملاك المرسلة لا ينفذ بشهادة الزور؛ بهذا الحديث، ولقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[النساء: ٢٩] , وروي أنها نزلت فيه؛ ولأن القاضي لا يملك إثبات الملك بدون السبب، فإنه لا يملك دفع مال زيد إلى عمرو، وأما العقود والفسوخ، فإنه يملك إنشاءها، فإنه يملك بيع أمة زيد وغيرها من عمرو حال غيبته، وخوف الهلاك؛ فإنه يبيعه للحفظ، وكذلك لو مات ولا وصي له، ويملك إنشاء النكاح على الصغير, وعلى الصغيرة، والفرقة في العنين، وغير ذلك، فثبت أن له ولاية الإنشاء في العقود والفسوخ، فيجعل القضاء إنشاء؛ احترازًا عن الحرام، ولا يملك ذلك في الأملاك المرسلة بغير أسباب، فتعذر جعله إنشاء، فبطل.
ثم نقول: لو لم ينفذ باطنًا، فلو قضى القاضي بالطلاق، لبقيت حلالًا للزوج الأول باطنًا, وللثاني ظاهرًا، ولو ابتلي الثاني بمثل ما ابتلي الأول به، حلت للثالث -أيضًا-، وهكذا رابع وخامس، فتحل للكل في زمان واحد، وفيه من الفحش ما لا يخفى.
ولو قلنا بنفاذه باطنًا، لا تحل إلا لواحد، ولا فحش فيه. هذا آخر كلام صاحب "شرح المختارا للفتوى في مذهب أبي حنيفة -رحمه الله تعالى-.
ولا شك أن قول أبي حنيفة مخالف؛ لهذا الحديث الصحيح، ولإجماع من قبله، ولقاعدة وافق هو وغيره عليها، وهي: أن الأبضاع أولى بالاحتياط من الأموال، والقول بأن حكم الحاكم لا يحيل الباطن، ولا يحل حراما، وهو مذهب الشافعي، ومالك، وأحمد، وجماهير علماء الإِسلام وفقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، والله أعلم.
وفيه دليل: على إجراء الأحكام على الظاهر.
وفيه دليل: على إعلام الناس بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحكم بالظاهر كغيره، وإن كان يفترق مع الغير في اطلاعه على ما يطلعه الله عليه من الغيوب الباطنة، وذلك