فإن قيل: اجتناب الكبائر مكفر للصغائر في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١)} [النساء: ٣١]، فإن اجتنبت الكبائر، وكفرت الصغائر، فما تكفر الصلوات الخمس ورمضان والحج والعمرة والوضوء وغير ذلك مما ذكر؟
قلنا: إنما جعلت مكفرة إن وجدت ما تكفره، فإذا لم تجد ما تكفره، كانت رفع درجات لصاحبها، والله أعلم.
وقال الشيخ الإِمام أبو محمد بن عبد السلام -رحمه الله- في كتابه "القواعد": إذا أردت معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة، فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر، فهي صغيرة من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر، أو ربت عليه، فهي من الكبائر، فمن شتم الرب -سبحانه وتعالى-، أو رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو استهان بالرسل، أو كذب واحدًا منهم، أو ضمخ الكعبة بالعذرة، أو ألقى المصحف في القاذورات، فهي من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة (١).
قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد القاضي -رحمه الله-: وهذا الذي قاله عندي داخل فيما نص عليه الشرع بالكفر، إن جعلنا المراد بالاشراك بالله تعالى مطلقَ الكفر على ما سنبينه عليه، ولا بد مع هذا من أمرين:
أحدهما: أن المفسدة لا تؤخذ مجردة عما يقترن بها من أمر آخر، فإنه قد يقع الغلط في ذلك، ألا ترى أن السابق إلى الذهن: أن مفسدة الخمر السكر وتشويش العقل؟ فإن أخذنا هذا بمجرده، لزم منه ألَّا يكون شرب القطرة الواحدة كبيرة؛ لخلائها عن المفسدة المذكورة، لكنها كبيرة؛ لأنها، وإن خلت عن المفسدة المذكورة، إلا أنه تقترن بها مفسدة التجرؤ على شرب الخمر الكثير الموقع في المفسدة، فبهذا الاقتران يصير كبيرة.
الثاني: أنا إذا سلكنا هذا المسلك، فقد تكون مفسدة بعض الوسائل إلى
(١) انظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (١/ ١٩).