وأما قولهم:"ليته سكت"؛ فإنما قالوه وتمنوه شفقة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكراهة لما يزعجه ويغضبه، والله أعلم.
وأما اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بقول الزور وشهادة الزور؛ فلأن وقوعهما على الناس أسهل، والتهاون بهما أكثر، والحوامل على فعلهما كثيرة؛ من العداوة والبغضاء والحسد وغيرها، فاحتيج إلى الاهتمام بها لذلك، وتعظيم أمرهما، بخلاف الإشراك بالله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ فإنه لا يقع فيه مسلم، وعقوق الوالدين؛ فإن الطبع صارف عنه، وليس العقوق وقول الزور مساويًا للإشراك باللهِ قطعًا، إلا إذا فعل ذلك معتقدا حله، فإنه يصير كافرًا، ومعلوم أن الكافر شاهد بالزور وقائل به، وقد تقدم حمل ذلك على أنه من أكبر الكبائر لا أكبرها، وهو الظاهر، وضعف غيره من التأويلات، وقد تقدم أن المراد بشهادة الزور: إنما هو في الحقوق الكبيرة والعظيمة والحقيرة، لا فرق بينهما؛ لانجرار الشهادة بالحقير إلى العظيم؛ كما في تحريم الخمر، ونقلنا الاحتمال فيه عن أبي محمد بن عبد السلام في كل ثمرة من مال يتيم، والله أعلم.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وقولُ الزور وشهادةُ الزور"؛ فيحتمل أو يحمل قول الزور على شهادة الزور؛ حيث إنه لو حمل على الإطلاق في كل قول زور، لكان كبيرة، وليس كذلك؛ فإن الفقهاء نصوا على أن الكذبة الواحدة وما يقاربها لا تسقط العدالة، ولو كانت كبيرة، لأسقطت، وقد نص الله - عَزَّ وَجَلَّ - على عظم بعض الكذب، فقال: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (١١٢)} [النساء: ١١٢].
وعظم الكذب ومراتبه تتفاوت بحسب تفاوت مفاسده، وقد نص في الحديث على أن الغيبة بالقذف كبيرة؛ لإيجابها الحد، ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة مثلًا، أو قبح بعض الهيئة في الناس مثلًا، والله أعلم.
وفي الحديث: إثبات الكبائر، وأن منها ما هو كفر، ومنها ما ليس بكفر.
وفيه: تحريم الإشراك بالله - عَزَّ وَجَلَّ -، وهو كفر بالإجماع.