البخاري": آخر: حتى تهبَّ الأرواحُ وتحضرَ الصلوات (١)، وذلك لفضيلة أوقات الصلاة والدعاء عندها.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية"؛ إنما نهى عن ذلك؛ خشيةَ ألا تكون الأمور المقدرة في النفس، كالأمور المحققة عند التحقيق، فكره تمني لقاء العدو لذلك، ونهى عنه خوفًا من إعجاب النفس والاتكال عليها والوثوق بالقوة، وهو نوع بغي؛ وقد ضمن الله تعالى لمن بُغي عليه أن ينصره، ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره، وهذا كله يخالف الاحتياط والحزم.
وقد ثبت في الصحيح النهيُ عن تمني الموت؛ فإن قوله المطلع شديد، وفي الجهاد زيادة على مطلق الموت، وتأول بعضهم النهي عن التمني على صورة خاصة، وهي: إذا شك في المصلحة فيه، وحصول ضرر، وإلا فالقتال كله فضيلة وطاعة.
والصحيح: الأول؛ ولهذا نبه - صلى الله عليه وسلم - عقب نهيه عن التمني بسؤال العافية؛ فينها لا يعدلها شيء، والسلامة الدنيوية والأخروية مطلوبة للشرع، ولهذا حذر من الفتن والاختلاف ومواضعها ومواقعها؛ طلبًا للسلامة.
فالتمني منهي عنه؛ لما يخشى فيه من عدم الثبات والافتتان. وطلبُ النصر والشهادة مأمور بهما؛ لما فيهما من إعزاز الدين، وإعلاء كلمة الله تعالى، والجزاء عليهما. وسؤالُ العافية مطلوب من الألفاظ العامة المتناولة لدفع جميع المكروهات في الظاهر والباطن، في البدن والدين، والدنيا والآخرة.
وقد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العافية في ذلك جميعه، والله أعلم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا لقيتموهم فاصبروا"؛ لما كان ملاقاة العدو محلًا للتزلزل، وعدم الثبات على المطلوب، أمر الشرع فيه بالصبر؛ وهو كظم ما يؤلم. والصبر
(١) رواه البخاري (٢٩٨٩)، كتاب: الجزية والموادعة، باب: الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، عن النعمان بن مقرن - رضي الله عنه -.