للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سكنًا ليسكن فيه، فإذا نحدث فيه، فقد جعله كالنهار الذي هو متصرف المعاش، فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله التي أجرى عليها وجوده.

وقيل: الحكمة فيه إراحةُ الكتبةِ، ولهذا كان بعض السلف يقول لأصحابه إذا أرادوا الحديث بعدها: أَريحوا الكتبةَ، والله أعلم.

وقوله: "وكَانَ يَنْفَتِلُ من صَلاَةِ الغَداةِ حيَن يَعْرِفُ الرَّجُل جَلِيسَه"؛ تقدم أنه يقال لصلاة الصبح: صلاة الغداة، بلا كراهة، ونقل عن بعض السلف: كراهته، وهذا الحديث يرد عليه.

ومعرفة الرجل جليسَه حين يسلم: هو نظره إلى وجهه، ولهذا قال في رواية في "صحيح مسلم": وكان ينصرف حين يعرف بعضُنا وجهَ بعض (١)، وهذا كله ظاهر في شدة التبكير.

وليس فيه مخالفةٌ لقوله في النساء في الحديث الثاني: "ما يعرفهن أحدٌ من الغَلَس" (٢)؛ لأن هذا إخبارٌ عن رؤية جليسه، وذاك إخبار عن رؤية النساء عن بُعد، وقد تقدم أن الغلسَ قبل الغَبَش، فيمكن رؤيةُ الجليسِ مع الغبش في أوله، ولا يمكن مع الغلس.

وأما انفتاله - صلى الله عليه وسلم -، فيحتمل أن يكون مراد الراوي به: السلام؛ أي: انفتل بوجهه للسلام، ويحتمل أن مراده: انفتل بجميع بدنه، وأقبل على المأمومين، ولا شك أن كِلاَ الأمرين جائز، لكن اختلف العلماء أيهما أفضل؟

فَذهب الشَّافعيُّ، ومن وافقه، وتبعه: إلى أَنَّ بقاءَه مستقبلَ القبلة إن لم يرد الانصراف أفضلُ، خصوصًا إن جلس للذكر، والدعاء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ المجالسِ ما اسْتُقْبِلَ به القبلةُ" (٣).


(١) رواه مسلم (٦٤٧)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها.
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) رواه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (٢/ ٣٥)، والديلمي في "مسند الفردوس" (٢٩٠١)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٢٥/ ٢٩)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

<<  <  ج: ص:  >  >>