للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأغلوطات، وهي شِدادُ المسائل وصِعابُها (١)، وإنما كان ذلك مكروهًا؛ لما يتضمن كثيرًا من التكاليف في الدين، والتنطع والرجم بالظن من غير ضرورة تدعو إليه، مع عدم الأمن من العثار وخطأ الظن، والأصلُ المنعُ من الحكم بالظن، إلا حيث تدعو الضرورة إليه، ومما دعت الضرورة إليه من ذلك جوازُ الاجتهاد في المياه، والأخذ بما غلب على الظن طهارتهُ، مع وجود الماء المتيقن طهارته، وكذلك الأخذُ بالأصل في طهارتها، وإن شك في نجاستها، وكذلك إلحاق الولد بالفراش؛ لتعذر اليقين فيه، وكذلك عدمُ الحكم بالعلم، والعملُ بالبينة استبراءً للعرض المحثوثِ عليه شرعًا.

وأما قول الشافعي - رحمه الله -: لولا قضاة السوء، لقلتُ بجواز الحكم بالعلم لما يقع الاشتباه بالقاضي المحق والمبطل، ولا يقع النقاد من العلماء في كل عصر، ولو وقع، قد تضعف نفوسهم عن إظهار الزيف، ولو أظهروا الحق، قد لا يجدون من يعينهم على إظهاره والعمل به، فمنع القول بجوازه سدًّا للتهمة في الدين والعرض عملًا تحضيض الشرع على ذلك، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "فمنِ اتقى الشُّبهاتِ استبرأَ لدينهِ وعرضِه" (٢). وأمره - صلى الله عليه وسلم - بالحكم بالظاهر، وقطعه - صلى الله عليه وسلم - قطعةً من النار لمن حكم له بالظاهر الذي يخالف الباطن، والله أعلم.

الوجه الثاني: أن يكون ذلك راجعًا إلى سؤال المال، وقد وردت أحاديث في تعظيم تقبيح مسألة الناس، ولا شك أن لفظ الحديث يدل على النهي عن الكثرة في السؤال، لا عن السؤال مطلقًا، وهو عام في سؤال الله تعالى والناس، خرج سؤال الله تعالى بالأمر به، والحث عليه في قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ


(١) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٥/ ٤٣٥) والطبراني في "المعجم الكبير" (١٩/ ٣٨٩)، وفي "مسند الشاميين" (٢١٠٨)، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (ص: ٢٩٩)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٢٩/ ٤٦).
(٢) رواه البخاري (٥٢)، كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، ومسلم (١٥٩٩)، كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه -.

<<  <  ج: ص:  >  >>