من باب العبرة بعموم اللفظ في قوله: إني رجل أسرُدُ الصوم في السفر، وخيّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الصوم وتركه، من غير نظر إلى فرض أو نفل، أو يعتبر خصوص السبب في كونه شابًّا، ويجد قوة، ويكري ظهره، ويعالجه في سفره، ويرى أن الصوم أهونُ عليه من الإفطار؛ لكون الصوم يبقى دينًا، فخيَّره، ويكون السبب كالمعاد في التخيير، وهو الجواب ينظر في ذلك كُله.
وإذا حملناه على الفرض والنفل، فيحتاج الجواب عن مذهب الشَّافعي - رحمه الله -، وأحمد، في كون النفل لا يبقى دينًا على من أفطره، والله أعلم.
أما من حمله على مطلق الصوم، فاستدلَّ بقوله: إني رجل أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ الحديث، فقال: ظاهره أن ذلك لا يستعمل إلا في التطوع، وإلا لما حسن السؤال عن صوم الفرض، فاستدلَّ به للشافعي وموافقيه في أن صوم الدهر وسرده غير مكروه لمن لا يخاف منه ضررًا، ولا يفوِّت به حقًّا، بشرط فطر يومي العيد والتشريق؛ لأنه أخبر بسرده، ولم ينكر عليه، بل أقره عليه، وأذن له فيه في السفر، ففي الحضر أولى، فحينئذ يحتاج الجواب عن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في إنكار النَّبي - صلى الله عليه وسلم - صوم الدهر، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: في صوم يوم وفطر يوم: "لا أفضل من ذلك"(١).
والجواب عن الإنكار: أنه - صلى الله عليه وسلم - علم منه أنه سيضعف عنه، وهكذا جرى، فإنه ضعف في آخر عمره، وكان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب الدائم وإن قَلَّ، ويحثُّهم عليه، وعن قوله:"لا أفضل من ذلك" إما بالنسبة إلى عبد الله فقط، وإما بالنسبة إلى الإطلاق، وليس بينه وبين المدعى منافاة؛ فإن المدعى الجواز وعدم الكراهة، أو أنه مسنون بشروطه المذكورة لا الأفضلية، والله أعلم.
وقد كان جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - يسردون الصوم متقربين به،
(١) رواه البخاري (١٨٧٥)، كتاب: الصوم، باب: صوم الدهر، ومسلم (١١٥٩)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، أو فوَّت به حقًّا.