أَمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ"؛ عدم الاستطاعة تطلق بمعنيين: أحدهما: المتعذر مطلقًا، الَّذي لا يمكن، والثاني: الشَّاق على الفاعل.
والحديث محمول على الثاني، وحمل بعضهم على الأول: قوله تعالى {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}[البقرة: ٢٨٦]، حمله على المستحيل، حتى أخذ منه جواز تكليف ما لا يطاق، وحمل بعضهم الآية على ما يشق، وهو الأقرب، ويمكن أن يحمل الحديث على المتعذر الممتنع، إما لكبر السِّن، وأعلم النَّبي وأنَّه سيصير إلى سن لا يستطيع فعل ما التزمه، وإمَّا لاستحقاق الزمن الَّذي التزم فيه ما التزمه أمورًا يتعذر فعل ذلك فيها؛ حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه لا يستطيع ذلك مع القيام ببقية المصالح المرعية شرعًا.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وذلكَ مثلُ صيامِ الدَّهْرِ" اعلم أن المثليَّة ترد في الأحاديث كثيرًا، والمراد بها القول الحسِّي الواقع في الخارج؛ للحث على فعل المذكور من غير تضعيف الحسنات فيها؛ كالممثل به؛ حيث إنَّ المقدر لا يكون كالمحقق؛ فإنَّ القواعد اقتضت ذلك؛ فالحسنات تتفاوت بحسب تفاوت المصالح بالمشقة بالفعل وغيره؛ فكيف تستوي من فعل الشيء بمن قدرته؛ لكنَّ المراد في نظر الشارع في التَّقدير؛ الفعل المرتب عليه التضعيف في التَّحقيق.
ومن هاهنا استدلَّ على جواز صوم الدهر استحبابًا؛ من حيث إنَّ صوم ثلاثة أَيَّام من الشَّهر مرغَّب فيها؛ كترغيب صوم الدَّهر.
ولا يجوز أن تكون جهة الترغيب هي جهة النَّهي، وسبيل الجواب في النَّهي عن صوم الدهر -عند من قال به- متعلَّق بالفعل الحقيقي، وهو في كلِّ الأوقات الجائز الصوم فيها، والمنهي عنه فيها، وجهة الثَّواب ها هنا حصوله على الوجه التَّقديري، وهو غير الحقيقي، فاختلف جهة الترغيب والنَّهي فإنَّ صوم الدَّهر حسًّا، غيرُ صومه شرعًا، والذين قالوا باستحبابه قالوا: بشرط ألا يعطل عن حق شرعي، فإن عطل، كان مكروهًا، وعليه نزل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَامَ مَن صَامَ