للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تأويل ثالث: أنَّ معنى "لا صام من صام الأبد": أنَّه لا يجد من مشقته ما يجدها غيره ممن صام وأفطر، فيكون "لا صام الأبد" خبرًا، لا دعاءً، مع أنَّ نهي عبد الله بن عمرو وخطابه بذلك كان لعلم النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بعجزه آخر عمره، فعجز وندم على كونه لم يقبل الرخصة، فنهيه عنه لعلمه بأنه سيعجز، وإقراره لحمزة بن عمرو؛ لعلمه بقدرته بلا ضرورة.

وقد اختلف الفقهاء في الأفضل من صوم يوم ويوم، أو صوم الدَّهر غير الأيام المنهي عنها، مع اتِّفاقهم على جواز الأمرين إذا لم يتضرَّر بواحد منهما، ولم يفوت حقًّا، فاستدلَّ من قال بأفضلية صوم يوم ويوم بهذا الحديث، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وهو أَفْضَلُ الصِّيامِ"، وفي رواية: "أَحَبَّ الصِّيامِ إِلى اللهِ"، وهو أقوى الصيام في ذلك.

واستدلَّ من قال بأفضلية صوم الدَّهر بالشرط المذكور بأنَّ العمل كلَّما كان أكثر، كان الأجر أوفر، وهذا هو الأصل، فيحتاج إلى تأويل قول من قال بأفضلية يوم ويوم، ودليلهم.

فقيل: إنَّه أفضل بالنسبة إلى حال مَنْ حالُه مثل عبد الله بن عمرو ممَّن يتعذَّر عليه الصَّوم الأكثر وبين القيام بالحقوق.

وقال شيخنا الإمام أبو الفتح - رحمه الله - (١): والأقرب عندي أنَّ يجري على ظاهر الحديث في تفضيل صيام داود - صلى الله عليه وسلم -، والسَّبب فيه؛ أنَّ الأقوال متعارضة المصالح والمفاسد، وليس ذلك معلومًا لنا، ولا منحصرًا، فإذا تعارضت المصالح والمفاسد، فمقدار كل واحد منهما في الحثِّ والمنع غير محقق لنا، فالطريق حينئذ؛ أنَّ يفوّض الحكم إلى صاحب الشَّرع، ويجري على ما دلَّ عليه ظاهر اللَّفظ مع قوَّة الظَّاهر هاهُنا.

وأَمَّا زيادة العمل، واقتضاء القاعدة زيادةَ الأجر بسببه، فيعارضه اقتضاء


(١) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (٢/ ٢٣٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>