للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القوم اتهموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانوا بتهمتهم إيَّاه كفَّارًا، لكنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أدَّب مَنْ بعدَه من أمَّته، فقال: إذا كنتم هكذا، فافعلوا هكذا؛ لئلَّا يُظن بكم ظنَّ السُّوء، فقال سفيان بن عيينة: جزاك الله خيرًا، ما يجيئنا منك إلَّا كما نحب، هذا آخر كلامه (١).

وهذا متأكَّد في حقِّ العلماء ومن يُقتدى به، فلا يجوز لهم أنَّ يفعلوا فعلًا يوجب ظن السُّوء بهم، وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأنَّ ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم.

قال العلماء: وينبغي للحاكم أنَّ يبين وجه الحكم للمحكوم عليه إذا خفي، وذلك من باب نفي التُّهمة بالنِّسبة إلى الجور في الحكم، أو من باب وجوب البيان وإزالة اللَّبس.

وفيه دليل: على هجوم خواطر الشَّيطان على النفس، وما كان من ذلك غيرَ مقدور على رفعه، لا يؤاخذ به؛ لقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَا نُكَلِّفُ نفْسًا إلا وُسْعَهَا} [المؤمنون: ٦٢]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في الوسوسة التي يتعاظم الإنسان أنَّ يتكلَّم به: "ذلك محض الإيمان" (٢)، فجعل - صلى الله عليه وسلم - تعاظمه للتكلَّم بالوسوسة محضَ الإيمان، لا الوسوسة. فالكراهة لذلك، وترك استقراره في الخاطر، وترك العمل عليه، كل واحد منهما من محض الإيمان، وقد أخطأ من جعل الوسوسة نفسَها دليلًا على خير الإنسان والعناية به، وإنَّما الخير والعناية تقعُ بدفعها واستقرارها والعمل عليها.

فهجوم الخاطر لا يؤاخذ به؛ حيث إنَّه لا قدرة له فيه، واستقرارُه، والعملُ عليه، والإصرارُ يؤاخذ به.


(١) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (٩/ ٩٢)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٥١/ ٣٠٥).
(٢) رواه مسلم (١٣٢)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الوسوسة في الإيمان، وما يقوله من وجدها، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ورواه أيضًا (١٣٣)، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -.

<<  <  ج: ص:  >  >>