للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملكك فقد فرغت مدتك، فتحيّر من مقالة الشّيخ وصار منتظرا لما قال له.

فما أتمّت ثمانية عشر يوما إلاّ وقد نزل الباشا درغوث صاحب طرابلس لمّا استدعاه أهل القيروان لما لحقهم من إذاية الشابيين - حسبما مرت الإشارة إليه - في دار الغنم (٨٤) قرب البلد بالجهة الغربية منها وكانت قرى مسكونة، فعمل المكّني على محاربة الباشا وقتاله فاستشار الشّيخ في ذلك، فمنعه وقال: لا يفيدك شيئا وكلّ من يموت من الفريقين فأنت محاسب به فسلّم الأمر لله، وقال له: هذا حدّ أمرك وملكك، فخرج للباشا وسلّم عليه وتأدّب معه وقال له: يا مولانا إنّما ضبطت البلاد لكم وأنا خديمكم، فلمّا رآه طائعا قبله وعزم على إبقائه عاملا على صفاقس، فسمع بذلك أهل البلد فمنهم من رضي ومنهم من أبى، فغيّبوا المكّني واجتمعوا بالباشا وقالوا له: يا سيّدنا لا يغرّنّك فعله / معك وخضوعه بين يديك فإنه صاحب دهاء وحيل ومراوغة وشيطنة فإن أبقيته ينقلب عنك ولا تقدر عليه، فوافقهم الباشا على ما قالوا، فلمّا أتاه المكّني قال له: لا بدّ من مسيرك معي، ففهم النّكتة ومن تسبّب فيها ومن سعى في كيده، فقال له: يا مولانا نعم ما رأيت وإن هذا مرادي نفوز بخدمتك ومباشرة شؤونك، ودعا بخير وأظهر السّرور والبشر.

وكانت طرابلس قد استولى عليها الخراب وتمزّق شملها وباد أهلها، فاستجدّ درغوث باشا - رحمه الله - هذه المدينة الموجودة الآن بين البرجين الذين استحدثهما النّصارى على الميناء، وكانت البلاد عامرة بالجنود والعساكر محتاجة لمن يقوم بصنائعها، فقال له: يا مولانا إن بلدك ليس بمدينة إلاّ أن تعمّرها بأناس من أهل هذا البلد، فانّ أهلها ذو حذق وقواعد ولهم مدخل في الرأي والأمور، فإذا أنقلت منهم طائفة تجمّلت بهم مدينتك واستقامت وتحضّرت، فاستصوب كلامه لموافقة ما ظهر له من أحوالهم لأنّهم أهل همّة واحتشام في لباسهم وقواعد في كلامهم، فقال له: يا رئيس هذه وظيفتك فاختر من يصلح لهذا الشأن، فقال له: سمعا وطاعة وسأكتب لك أسماءهم، فنظر في أمره وعين أصحابه الّذين دبّروا في عزله وخروجه من وطنه، فكتب أربعين عائلة (٨٥) جانبا من كلّ قبيلة، وأعطى الكتاب للباشا فوافقه (٨٦) على ما فيه، وأمر كلّ من كان إسمه في الكتاب / بتجهيز عياله لطرابلس، فندموا وعرفوا وبال صنيعهم وتأسّفوا على ما


(٨٤) على طريق عقارب من مدينة صفاقس.
(٨٥) في الأصول: «عيلة».
(٨٦) في ط: «موافقة».