أوقاتها جماعة، يقال إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل حتى ولا في مرض موته، بل كان يدخل الإمام فيصلي به، فكان يتجشم القيام مع ضعفه، وكان رقيق القلب سريع الدمعة، وكان يحب سماع القرآن العظيم ويواظب على سماع الحديث حتى إنه سمع في بعض المصافات جزءًا وهو بين الصفين للقتال وكان يقول: هذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثًا.
قال ابن كثير: «وفي سنة (٥٨٩ هـ) اشتد به المرض ثم حصل له عرق شديد بحيث نفذ إلى الأرض، وعندما ظهرت مخايل الضعف الشديد وغيبوبة الذهن في بعض الأوقات استدعى الشيخ أبا جعفر إمام الكلَاّسة ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة إذا جد به الأمر، فذكر أنه كان يقرأ عنده وهو في غمرات الموت:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}[الحشر: ٢٢] فقال: وهو كذلك صحيح، فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق، فلما قرأ القارئ:{لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}[التوبة: ١٢٩] تبسم، وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه، ومات رحمه الله وأكرمه وجعل جنة الفردوس مأواه، وكان له من العمر سبع وخمسون سنة، فقد كان ردءًا للإسلام، وحرزًا وكهفًا من كيد الكفرة اللئام، وكان أهل دمشق لم يصابوا بمثل مصابه، وود كل منهم لو فداه بأولاده وأحبابه وأصحابه، وغلقت الأسواق، وأخذ الناس في البكاء» (١).