للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ: التَّوْبِيخُ لَهُمْ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ وَالْإِزْرَاءُ عَلَيْهِمْ، وَجُمْلَةُ: وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَقُرِئَ آلَانَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ الَّتِي بَعْدَ اللَّامِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، قِيلَ: آلْآنَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ لَهُمْ أَيْ: قِيلَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ:

إِنَّ هَذَا الَّذِي تَطْلُبُونَهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ، عَارٍ عَنِ النَّفْعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْعَاقِلُ لَا يَطْلُبُ ذَلِكَ، وَيُقَالُ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ، أَيِ: الْعَذَابَ الدَّائِمَ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، وَالْقَائِلُ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالَّتِي قَبْلَهَا قِيلَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى الْخُصُوصِ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْعُمُومِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ فِي الْحَيَاةِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَالِاسْتِفْهَامُ:

لِلتَّقْرِيرِ، وَكَأَنَّهُ يُقَالُ لهم هذا القول عند اسْتِغَاثَتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَحُلُولِ النِّقْمَةِ. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ الْبَالِغَةِ، وَالْجَوَابَاتِ عَنْ أَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ. أَنَّهُمُ اسْتَفْهَمُوا تَارَةً أُخْرَى عَنْ تَحَقُّقِ الْعَذَابِ، فَقَالَ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ أي: يستخبرونك على جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ مِنْهُمْ وَالْإِنْكَارِ: أَحَقٌّ مَا تَعِدُنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَهَذَا السُّؤَالُ مِنْهُمْ جَهْلٌ مَحْضٌ. وَظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْهُمْ مَعَ الْجَوَابِ عَلَيْهِ، فَصَنِيعُهُمْ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ صَنِيعُ مَنْ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ وَلَا مَا يُقَالُ لَهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الِاسْتِخْبَارِ مِنْهُمْ: هُوَ عَنْ حَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ، وَارْتِفَاعُ حَقٌّ: عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالْمُبْتَدَأُ: هُوَ الضَّمِيرُ الَّذِي بَعْدَهُ، وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِلِاهْتِمَامِ، أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالضَّمِيرُ مُرْتَفِعٌ بِهِ سَادٌّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَالْجُمْلَةُ فِي موضع نصب بيستنبؤنك، وَقُرِئَ الْحَقِّ هُوَ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لِلْجِنْسِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَهْوَ الْحَقُّ لَا الْبَاطِلُ؟ قَوْلُهُ: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ جَوَابًا عَنِ اسْتِفْهَامِهِمُ الْخَارِجِ مُخْرَجَ الِاسْتِهْزَاءِ، أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى مَا هُوَ مَقْصُودُهُمْ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ: إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ أَيْ نَعَمْ وَرَبِّي إِنَّ مَا أَعِدُكُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ لَحَقٌّ ثَابِتٌ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ تَأْكِيدٌ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: الْقَسَمُ مَعَ دُخُولِ الْحِرَفِ الْخَاصِّ بِالْقَسَمِ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ نَعَمْ الثَّانِي: دُخُولُ إِنَّ الْمُؤَكِّدَةِ الثَّالِثُ: اللَّامُ فِي لَحَقٌّ الرَّابِعُ: اسْمِيَّةُ الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ: عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّمَرُّدِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَيْسَ وَرَاءَهَا غَايَةٌ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِأَشَدِّ تَوَعُّدٍ، وَرَهَّبَهُمْ بِأَعْظَمِ تَرْهِيبٍ، فَقَالَ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ: فَائِتِينَ الْعَذَابَ بِالْهَرَبِ وَالتَّحَيُّلِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ، وَالْمُكَابَرَةِ الَّتِي لَا تَدْفَعُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ شَيْئًا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ: إِمَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ، أَوْ: مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ عَدَمِ خُلُوصِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ثُمَّ زَادَ فِي التَّأْكِيدِ، فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ أَيْ: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْأَنْفُسِ الْمُتَّصِفَةِ بِأَنَّهَا ظَلَمَتْ نَفْسَهَا بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ وَالذَّخَائِرِ الْفَائِقَةِ لَافْتَدَتْ بِهِ، أَيْ: جَعَلَتْهُ فِدْيَةً لَهَا مِنَ الْعَذَابِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ «١» وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ الضمير راجع إلى الكفار الذين سياق الكلام معهم، وقيل: راجع إلى الأنفس المدلول


(١) . آل عمران: ٩١.

<<  <  ج: ص:  >  >>