للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَيْهَا بِكُلِّ نَفْسٍ. وَمَعْنَى أَسَرُّوا: أَخْفَوْا، أَيْ: لَمْ يُظْهِرُوا النَّدَامَةَ بَلْ أَخْفَوْهَا لِمَا قَدْ شَاهَدُوهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ مِمَّا سَلَبَ عُقُولَهُمْ، وَذَهَبَ بِتَجَلُّدِهِمْ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ بَقِيَ فِيهِمْ- وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ- عِرْقٌ يَنْزِعُهُمْ إِلَى الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، فَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لِئَلَّا يَشْمَتَ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ وَقِيلَ أَسَرَّهَا الرُّؤَسَاءُ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ أَتْبَاعِهِمْ: خَوْفًا مِنْ تَوْبِيخِهِمْ لَهُمْ، لِكَوْنِهِمْ هُمُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ، وَوُقُوعُ هَذَا مِنْهُمْ كَانَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ، وَأَمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ فَهُمُ الذين قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا «١» وَقِيلَ:

مَعْنَى أَسَرُّوا: أَظْهَرُوا، وَقِيلَ: وَجَدُوا أَلَمَ الْحَسْرَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّ النَّدَامَةَ لَا يُمْكِنُ إِظْهَارُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ كُثَيْرٍ:

فَأَسْرَرْتُ النَّدَامَةَ يَوْمَ نَادَى ... بِرَدِّ جِمَالِ غَاضِرَةَ الْمُنَادِي

وَذَكَرَ الْمُبَرِّدُ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا بَدَتْ فِي وُجُوهِهِمْ أَسِرَّةُ النَّدَامَةِ، وَهِيَ الِانْكِسَارُ، وَاحِدُهَا سِرَارٌ، وَجَمْعُهَا أَسَارِيرُ، وَالثَّانِي: مَا تَقَدَّمَ وَقِيلَ: مَعْنَى: أَسَرُّوا النَّدامَةَ أخلصوها، لأن إخفاءها إخلاصها، ولَمَّا فِي قَوْلِهِ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ظَرْفٌ بِمَعْنَى: حين، منصوب بأسرّوا أَوْ حَرْفُ شَرْطٍ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أَيْ: قَضَى اللَّهُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ، أَوْ بَيْنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْأَتْبَاعِ، أَوْ بَيْنَ الظَّالِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمَظْلُومِينَ وَقِيلَ: مَعْنَى: الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ: إِنْزَالُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا يظلمهم الله فيما فعله بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ مَا كَسَبُوا، وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ كَمَالِ قدرته، لأنّ من ملك ما في السموات وَالْأَرْضِ تَصَرَّفَ بِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَغَلَّبَ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ لِكَوْنِهِمْ أَكْثَرَ الْمَخْلُوقَاتِ، قِيلَ: لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ افْتِدَاءَ الْكُفَّارِ بِمَا فِي الْأَرْضِ لَوْ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الِافْتِدَاءِ بِهِ وَقِيلَ: لَمَّا أَقْسَمَ عَلَى حَقِّيَةِ مَا جاء به النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَصْحَبَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْبُرْهَانِ الْبَيِّنِ: بِأَنَّ مَا فِي الْعَالَمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ مَلِكُهُ، يَتَصَرَّفُ بِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَفِي تَصْدِيرِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ: تَنْبِيهٌ لِلْغَافِلِينَ، وَإِيقَاظٌ لِلذَّاهِلِينَ، ثُمَّ أَكَّدَ مَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ: أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ: كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ مَا اسْتَعْجَلُوهُ مِنَ الْعَذَابِ انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا، وَتَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِحِرَفِ التَّنْبِيهِ: كَمَا قُلْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا مَعَ الدلالة على تحقق مضمون الجملتين وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أَيِ: الْكُفَّارَ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ فَيَعْمَلُونَ بِهِ، وَمَا فِيهِ فَسَادُهُمْ فَيَجْتَنِبُونَهُ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ يَهَبُ الْحَيَاةَ وَيَسْلُبُهَا وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، وَيَتَفَضَّلُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.

قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يَعْنِي: الْقُرْآنَ فِيهِ مَا يَتَّعِظُ بِهِ مَنْ قَرَأَهُ وَعَرَفَ مَعْنَاهُ، وَالْوَعْظُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ التَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، سَوَاءٌ كَانَ بِالتَّرْغِيبِ أَوِ التَّرْهِيبِ، وَالْوَاعِظُ هُوَ كَالطَّبِيبِ يَنْهَى الْمَرِيضَ عَمَّا يضرّه، ومن فِي مِنْ رَبِّكُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ جَاءَتْكُمْ، فَتَكُونُ ابْتِدَائِيَّةً، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، فَتَكُونُ تَبْعِيضِيَّةً وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ مِنَ الشُّكُوكِ الَّتِي تَعْتَرِي بَعْضَ الْمُرْتَابِينَ لِوُجُودِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى تَزْيِيفِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ، وَالْهُدَى: الْإِرْشَادُ لِمَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ، وَتَفَكَّرَ فِيهِ، وَتَدَبَّرَ مَعَانِيَهُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالرَّحْمَةُ: هِيَ مَا يُوجَدُ فِي الكتاب العزيز من الأمور


(١) . المؤمنون: ١٠٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>