للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الَّتِي يَرْحَمُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَيَطْلُبُهَا مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ حَتَّى يَنَالَهَا، فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ الْخِطَابَ مَعَهُ بَعْدَ خِطَابِهِ لِلنَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ، فَقَالَ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا الْمُرَادُ بِالْفَضْلِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: هُوَ تَفَضُّلُهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْآجِلِ وَالْعَاجِلِ بِمَا لَا يُحِيطُ بِهِ الْحَصْرُ، وَالرَّحْمَةُ: رَحْمَتُهُ لَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فَضْلُ اللَّهِ: الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتُهُ: الْإِسْلَامُ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَالضَّحَّاكِ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ: الْإِيمَانُ، وَرَحْمَتَهُ: الْقُرْآنُ. وَالْأَوْلَى: حَمْلُ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهُمَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَأَصْلُ الْكَلَامِ: قُلْ: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَلْيَفْرَحُوا، ثُمَّ حُذِفَ هَذَا الْفِعْلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا عَلَيْهِ، قِيلَ: وَالْفَاءُ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ دَاخِلَةٌ فِي جَوَابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَلْيَخُصُّوا فَضْلَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ بِالْفَرَحِ.

وَتَكْرِيرُ الْبَاءِ فِي: بِرَحْمَتِهِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ فِي الْفَرَحِ، وَالْفَرَحُ:

هُوَ اللَّذَّةُ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ إِدْرَاكِ الْمَطْلُوبِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْفَرَحَ فِي مُوَاطِنَ، كَقَوْلِهِ: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «١» وَجَوَّزَهُ فِي قَوْلِهِ: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «٢» وَكَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْبَاءُ فِي بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ: بِقَوْلِهِ: جاءَتْكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ، أَيْ: فَبِمَجِيئِهَا فَلْيَفْرَحُوا، وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَيَعْقُوبُ: فَلْتَفْرَحُوا بِالْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّحْتِيَّةِ وَالضَّمِيرُ فِي هُوَ خَيْرٌ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، أَوْ: إِلَى الْمَجِيءِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، أَوْ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ فَبِذلِكَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَجْمَعُونَهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا. وَقَدْ قُرِئَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ فِي يَجْمَعُونَ مُطَابَقَةً لِلْقِرَاءَةِ بِهَا فِي فَلْتَفْرَحُوا. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ لَامَ الْأَمْرِ تُحْذَفُ مَعَ الْخِطَابِ إِلَّا فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ جَاءَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهَا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ فِي يَجْمَعُونَ، كَمَا قَرَءُوا فِي: فَلْيَفْرَحُوا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَرَأَ: بالفوقية في: يجمعون، والتحتية:

في: فلتفرحوا.

وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ فَوَصَفَ لَهُ الْخَمْرَ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي رِجْسٍ شِفَاءً، إِنَّمَا الشِّفَاءُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ، فَهُمَا شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَشِفَاءٌ لِلنَّاسِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:

«إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْقُرْآنَ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ شِفَاءً لِأَمْرَاضِكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَكِي صَدْرِي، فَقَالَ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ، يَقُولُ اللَّهُ: شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَجَعَ حَلْقِهِ قَالَ: «عَلَيْكَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ، فَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَالْعَسَلُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّاءِ، يَعْنِي: الْفَوْقِيَّةَ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ قَالَ: بِفَضْلِ الله: القرآن، وبرحمته: أن


(١) . القصص: ٧٦.
(٢) . آل عمران: ١٧٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>