قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ مَعْطُوفٌ عَلَى وَأَنْذِرْ، وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ الرَّسُولِ إِيَّاهُ فِي الْكِتَابِ أَنْ يَتْلُوَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ كَقَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ «١» ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا تَعْلِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِأَنْ يَذْكُرَهُ، وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ مَا بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَالصِّدِّيقُ كَثِيرُ الصِّدْقِ، وَانْتِصَابُ نبيا على أنه خبر آخر لكان، أي: اذكر إبراهيم الجامع لهذين الوصفين، وإِذْ قالَ لِأَبِيهِ
بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَتَعْلِيقُ الذِّكْرِ بِالْوَقْتِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَذْكِيرُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ هُوَ آزَرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَالتَّاءُ فِي «يَا أَبَتِ» عِوَضٌ عَنِ الْيَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي لِمَ تَعْبُدُ
لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ مَا لَا يَسْمَعُ
مَا تَقُولُهُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَلا يُبْصِرُ
مَا تَفْعَلُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَمِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَفْعَلُهَا مُرِيدًا بِهَا الثَّوَابَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُ السَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ أَيْ: لَا يَسْمَعُ شَيْئًا مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ، وَلَا يُبْصِرُ شَيْئًا مِنَ الْمُبْصَرَاتِ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَجْلِبُ لَكَ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْكَ ضَرَرًا، وَهِيَ الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا آزَرُ، أَوْرَدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَبِيهِ الدَّلَائِلَ وَالنَّصَائِحَ، وَصَدَّرَ كُلًّا مِنْهَا بِالنِّدَاءِ الْمُتَضَمِّنِ لِلرِّفْقِ وَاللِّينِ اسْتِمَالَةً لِقَلْبِهِ، وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِ، ثُمَّ كَرَّرَ دَعْوَتَهُ إِلَى الحق فقال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ نَصِيبٌ لَمْ يَصِلْ إِلَى أَبِيهِ، وَأَنَّهُ قَدْ تَجَدَّدَ لَهُ حُصُولُ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ مِنْهُ إِلَى الْحَقِّ، وَيَقْتَدِرُ بِهِ عَلَى إِرْشَادِ الضَّالِّ، وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهِ فَقَالَ: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا مُسْتَوِيًا مُوَصِّلًا إِلَى الْمَطْلُوبِ مُنَجِّيًا مِنَ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِنَصِيحَةٍ أُخْرَى زَاجِرَةٍ لَهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ، فقال: يا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ أَيْ: لَا تُطِعْهُ، فَإِنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ هِيَ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا حِينَ تَرَكَ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَمَنْ أَطَاعَ مَنْ هُوَ عَاصٍ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ، وَالْعَاصِي حَقِيقٌ بِأَنْ تُسْلَبَ عَنْهُ النِّعَمُ وَتَحِلَّ بِهِ النِّقَمُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْعَصِيُّ وَالْعَاصِي بِمَعْنًى وَاحِدٍ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ الْبَاعِثَ عَلَى هَذِهِ النَّصَائِحِ فَقَالَ: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى أَخَافُ هُنَا أَعْلَمُ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّ الْخَوْفَ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ غَيْرُ جَازِمٍ بِمَوْتِ أَبِيهِ عَلَى الْكُفْرِ، إِذْ لَوْ كَانَ جَازِمًا بِذَلِكَ لَمْ يَشْتَغِلْ بِنُصْحِهِ، وَمَعْنَى الْخَوْفِ عَلَى الْغَيْرِ: هُوَ أَنْ يَظُنَّ وُصُولَ الضَّرَرِ إِلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أَيْ: إِنَّكَ إِذَا أَطَعْتَ الشَّيْطَانَ كُنْتَ مَعَهُ فِي النَّارِ وَاللَّعْنَةِ، فَتَكُونُ بِهَذَا السَّبَبِ مُوَالِيًا، أَوْ تَكُونُ بِسَبَبِ مُوَالَاتِهِ فِي الْعَذَابِ مَعَهُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ ولاية حقيقية لقوله سبحانه:
(١) . الشعراء: ٦٩.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute