للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «١» وَقِيلَ: الْوَلِيُّ بِمَعْنَى التَّالِي، وَقِيلَ: الْوَلِيُّ بِمَعْنَى الْقَرِيبِ، أَيْ: تَكُونَ لِلشَّيْطَانِ قَرِيبًا مِنْهُ فِي النَّارِ، فَلَمَّا مَرَّتْ هَذِهِ النَّصَائِحُ النَّافِعَةُ وَالْمَوَاعِظُ الْمَقْبُولَةُ بِسَمْعِ آزَرَ قَابَلَهَا بِالْغِلْظَةِ وَالْفَظَاظَةِ وَالْقَسْوَةِ، ف قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ، وَالْمَعْنَى: أَمُعْرِضٌ أَنْتَ عَنْ ذَلِكَ وَمُنْصَرِفٌ إِلَى غَيْرِهِ؟ ثُمَّ تَوَعَّدَهُ فَقَالَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ أَيْ: بِالْحِجَارَةِ، وَقِيلَ: بِاللِّسَانِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ لَأَشْتُمَنَّكَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَأَضْرِبَنَّكَ، وَقِيلَ: لَأُظْهِرَنَّ أَمْرَكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أَيْ: زَمَانًا طَوِيلًا.

قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ: هَجَرْتُهُ مَلِيًّا وملوة وملوة وملاوة وَمَلَاوَةً، بِمَعْنَى الْمَلَاوَةِ مِنَ الزَّمَانِ، وَهُوَ الطَّوِيلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهَلٍ:

فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الْجِبَالِ لِمَوْتِهِ ... وَبَكَتْ عَلَيْهِ الْمُرَمَّلَاتُ مَلِيَّا

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: اعْتَزِلْنِي سَالِمَ الْعِرْضِ لَا تُصِيبُكَ مِنِّي مَعَرَّةٌ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ، فَمَلِيًّا عَلَى هَذَا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مُنْتَصِبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ إِصْرَارَ أَبِيهِ عَلَى الْعِنَادِ قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ أَيْ: تَحِيَّةُ تَوْدِيعٍ وَمُتَارَكَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً «٢» وَقِيلَ مَعْنَاهُ:

أَمَنَةٌ مِنِّي لَكَ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَإِنَّمَا أَمَّنَهُ مَعَ كُفْرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: الدُّعَاءُ لَهُ بِالسَّلَامَةِ، اسْتِمَالَةً لَهُ وَرِفْقًا بِهِ، ثُمَّ وَعَدَهُ بِأَنْ يَطْلُبَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَأَلُّفًا لَهُ وَطَمَعًا فِي لِينِهِ وَذَهَابِ قَسْوَتِهِ:

وَالشَّيْخُ لَا يَتْرُكُ أَخْلَاقَهُ ... حَتَّى يُوَارَى فِي ثَرَى رَمْسِهِ «٣»

وَكَانَ مِنْهُ هَذَا الْوَعْدُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَحِقُّ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «٤» بَعْدَ قَوْلِهِ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ «٥» . وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا وَالْمَعْنَى: سَأَطْلُبُ لَكَ الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ كَانَ بِي كَثِيرَ الْبِرِّ وَاللُّطْفِ، يُقَالُ: حَفِيَ بِهِ وَتَحَفَّى إِذَا بَرَّهُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ حَفِيَ بِي حَفَاوَةً وَحَفْوَةً.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أَيْ: عَالِمًا لَطِيفًا يُجِيبُنِي إِذَا دَعَوْتُهُ. ثُمَّ صَرَّحَ الْخَلِيلُ بِمَا تَضَمَّنَهُ سَلَامُهُ مِنَ التَّوْدِيعِ وَالْمُتَارَكَةِ فَقَالَ: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ: أُهَاجِرُ بِدِينِي عَنْكُمْ وَعَنْ مَعْبُودَاتِكُمْ حَيْثُ لَمْ تَقْبَلُوا نصحي، ولا نجعت فيكم دعوتي وَأَدْعُوا رَبِّي وحده عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أَيْ: خَائِبًا، وَقِيلَ: عاصيا. قيل: أراد بهذا الدعاء: هو أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لَهُ وَلَدًا وَأَهْلًا يَسْتَأْنِسُ بِهِمْ فِي اعْتِزَالِهِ، وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِمْ عِنْدَ وَحْشَتِهِ وقيل: أراد دعاءه لأبيه بالهداية، وعسى لِلشَّكِّ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَدْرِي هَلْ يُسْتَجَابُ لَهُ فِيهِ أَمْ لَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أَيْ: جَعَلْنَا هَؤُلَاءِ الْمَوْهُوبِينَ لَهُ أَهْلًا وَوَلَدًا بَدَلَ الْأَهْلِ الَّذِينَ فارقهم


(١) . الزخرف: ٦٧.
(٢) . الفرقان: ٦٩.
(٣) . البيت لصالح بن عبد القدوس. (تاريخ بغداد ٩/ ٣٠٣) .
(٤) . التوبة: ١١٤.
(٥) . التوبة: ١١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>