قوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ المراد بالمجرمين: هم القائلون أإذا ضَلَلْنَا، وَالْخِطَابُ هُنَا لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُجْرِمِينَ: كُلُّ مُجْرِمٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أُولَئِكَ الْقَائِلُونَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَمَعْنَى: ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ مُطَأْطِئُوهَا حَيَاءً وَنَدَمًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَالْعِصْيَانِ لَهُ، وَمَعْنَى عِنْدَ رَبِّهِمْ: عِنْدَ مُحَاسَبَتِهِ لَهُمْ. قَالَ الزجاج: والمخاطبة للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مُخَاطَبَةٌ لِأُمَّتِهِ، فَالْمَعْنَى: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ مُنْكِرِي الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَأَيْتَ الْعَجَبَ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أَيْ: يَقُولُونَ: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا الْآنَ مَا كُنَّا نُكَذِّبُ بِهِ، وَسَمِعْنَا مَا كنا ننكره، وقيل: أبصرنا صدق وعيدك وَسَمْعِنَا تَصْدِيقَ رُسُلِكَ، فَهَؤُلَاءِ أَبْصَرُوا حِينَ لَمْ يَنْفَعُهُمُ الْبَصَرُ، وَسَمِعُوا حِينَ لَمْ يَنْفَعُهُمُ السَّمْعُ فَارْجِعْنا إِلَى الدُّنْيَا نَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً كَمَا أَمَرْتَنَا إِنَّا مُوقِنُونَ أَيْ: مُصَدِّقُونَ، وَقِيلَ:
مُصَدِّقُونَ بِالَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْإِيقَانِ الْآنَ طَمَعًا فِيمَا طَلَبُوهُ مِنْ إِرْجَاعِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّى لَهُمْ ذَلِكَ فَقَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «١» وَقِيلَ مَعْنَى: إِنَّا مُوقِنُونَ إِنَّهَا قَدْ زَالَتْ عَنْهُمُ الشُّكُوكُ الَّتِي كَانَتْ تُخَالِطُهُمْ فِي الدُّنْيَا لما رأوا ما رَأَوْا، وَسَمِعُوا مَا سَمِعُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا صِرْنَا مِمَّنْ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَفْعُولٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون صالحا مفعولا لنعمل، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا فَظِيعًا وَهَوْلًا هَائِلًا وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها هَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ لَمَّا طَلَبُوا الرَّجْعَةَ، أَيْ: لَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسِ هُدَاهَا، فَهَدَيْنَا النَّاسَ جَمِيعًا فَلَمْ يَكْفُرْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: فِي مَعْنَى هَذَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخَرُ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ: أَيْ وَلَوْ شِئْنَا لَرَدَدْنَاهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وجملة لو شِئْنَا: مُقَدَّرَةٌ بِقَوْلٍ مَعْطُوفٍ عَلَى الْمُقَدَّرِ قَبْلَ قَوْلِهِ:
«أَبْصَرْنَا» أَيْ: وَنَقُولُ: لَوْ شِئْنَا، وَمَعْنَى: وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أَيْ: نَفَذَ قَضَائِي وَقَدَرِي، وَسَبَقَتْ كَلِمَتِي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي وَجَبَ مِنَ اللَّهِ، وَحَقَّ عَلَى عِبَادِهِ، وَنَفَذَ فِيهِ قَضَاؤُهُ، فَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يُعْطِي كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا، وَإِنَّمَا قَضَى عَلَيْهِمْ بِهَذَا، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَخْتَارُ الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالذَّوْقِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالْبَاءُ فِي «بِمَا نَسِيتُمْ» لِلسَّبَبِيَّةِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ تَعْذِيبَهُمْ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ سَبْقِ الْقَوْلِ الْمُتَقَدَّمِ، بَلْ بِذَاكَ وَهَذَا.
وَاخْتُلِفَ فِي النِّسْيَانِ الْمَذْكُورِ هُنَا، فَقِيلَ: هُوَ النِّسْيَانُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ الَّذِي يَزُولُ عِنْدَهُ الذِّكْرُ وَقِيلَ:
هُوَ التَّرْكُ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: أَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا لِذَلِكَ الْيَوْمِ، فَكَانُوا كَالنَّاسِينَ لَهُ الَّذِينَ لَا يَذْكُرُونَهُ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ قَبْلَ لِقَاءَ، أَيْ: ذُوقُوا بِسَبَبِ تَرْكِكُمْ لِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ عَذَابَ لِقَاءِ يَوْمِكُمْ هَذَا، ورجح الثاني: المبرد وأنشد:
(١) . الأنعام: ٢٨.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute