للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كأنه خارجا مِنْ جَنْبِ صَفْحَتِهِ ... سَفُّودُ شُرْبٍ نَسَوْهُ عِنْدَ مُفْتَأَدِ «١»

أَيْ تَرَكُوهُ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ، وَيَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: إِنَّ النِّسْيَانَ هُنَا: بِمَعْنَى التَّرْكِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ:

وَالْمَعْنَى: بِمَا تَرَكْتُمُ الْإِيمَانَ بِالْبَعْثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ تَرَكْنَاكُمْ مِنَ الْخَيْرِ، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَرَكْنَاكُمْ فِي الْعَذَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا دَخَلُوا النَّارَ. قَالَتْ لَهُمُ الْخَزَنَةُ: ذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا نَسِيتُمْ، وَاسْتَعَارَ الذَّوْقَ لِلْإِحْسَاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ طُفَيْلٍ:

فَذُوقُوا كما ذقنا غداة محجّر ... مِنَ الْغَيْظِ فِي أَكْبَادِنَا وَالتَّحَوُّبِ

وَقَوْلُهُ: وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَكْرِيرٌ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ، أَيْ: ذُوقُوا الْعَذَابَ الدَّائِمَ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى اللِّقَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْيَوْمِ، وَأَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْعَذَابِ، وَجُمْلَةُ: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ مَا يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا إِنَّمَا يُصَدِّقُ بِآيَاتِنَا وَيَنْتَفِعُ بِهَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً لَا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُذَكَّرُ بِهَا، أَيْ: يُوعَظُ بِهَا وَلَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يُؤْمِنُ بِهَا، وَمَعْنَى «خَرُّوا سُجَّدًا» سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ سَاجِدِينَ تَعْظِيمًا لِآيَاتِ اللَّهِ، وَخَوْفًا مِنْ سَطْوَتِهِ وَعَذَابِهِ: وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أَيْ: نَزَّهُوهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ متلبسين بِحَمْدِهِ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي أَجَلُّهَا وَأَكْمَلُهَا: الْهِدَايَةُ إِلَى الْإِيمَانِ، وَالْمَعْنَى: قَالُوا فِي سُجُودِهِمْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، أَوْ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: الْمَعْنَى: صَلُّوا حَمْدًا لِرَبِّهِمْ، وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ خَاضِعِينَ لِلَّهِ، مُتَذَلِّلِينَ لَهُ غَيْرَ مُسْتَكْبِرِينَ عَلَيْهِ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ أَيْ: تَرْتَفِعُ وَتَنْبُو يُقَالُ: جَفَى الشَّيْءُ عَنِ الشَّيْءِ، وَتَجَافَى عَنْهُ:

إِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ وَنَبَا عَنْهُ، وَالْمَضَاجِعُ: جَمْعُ الْمَضْجَعِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَضْطَجِعُ فِيهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالرُّمَّانِيُّ:

التَّجَافِي وَالتَّجَفِّي إِلَى جِهَةِ فَوْقُ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الصَّفْحِ عَنِ الْمُخْطِئِ فِي سَبٍّ وَنَحْوِهِ، وَالْجُنُوبُ: جَمْعُ جَنْبٍ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُتَجَافِيَةً جُنُوبُهُمْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ، وَهُمُ الْمُتَهَجِّدُونَ فِي اللَّيْلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ لِلصَّلَاةِ عَنِ الْفِرَاشِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالْجُمْهُورُ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ صَلَاةُ التَّنَفُّلِ، بِاللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: هُوَ التَّنَفُّلُ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقِيلَ: صَلَاةُ الْعِشَاءِ فَقَطْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ لِذِكْرِ اللَّهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا مِنْ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي جُنُوبِهِمْ، فَهِيَ حَالٌ بَعْدَ حَالٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الْأُولَى مُسْتَأْنَفَةً لِبَيَانِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ طَاعَاتِهِمْ، وَالْمَعْنَى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ دَاعِينَ رَبَّهُمْ خوفا من عذابه، وطمعا في رحمته


(١) . السّفود: حديدة يشوى عليها اللحم. والشّرب: جماعة القوم يشربون.
والمفتأد: موضع النار الذي يشوى فيه. والبيت من معلقة النابغة الذبياني.

<<  <  ج: ص:  >  >>