عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَزَوْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ الْغَزْوَةُ الْمُسَمَّاةُ «غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ» وَهُمْ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِقُرَيْشٍ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَلْفَافِ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ غَطَفَانَ وَبَنُو قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، فَضَايَقُوا الْمُسْلِمِينَ مُضَايَقَةً شَدِيدَةً، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: كَانَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ. وَقَدْ بَسَطَ أَهْلُ السِّيَرِ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً مَعْطُوفٌ عَلَى جَاءَتْكُمْ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الصَّبَا، أُرْسِلَتْ عَلَى الْأَحْزَابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى أَلْقَتْ قُدُورَهُمْ، وَنَزَعَتْ فَسَاطِيطَهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُّورِ» ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها الْمَلَائِكَةُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ فَقَلَعَتِ الْأَوْتَادَ، وَقَطَعَتْ أَطْنَابَ الْفَسَاطِيطِ، وَأَطْفَأَتِ النِّيرَانَ، وَأَكْفَأَتِ الْقُدُورَ، وَجَالَتِ الْخَيْلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرُّعْبَ، وَكَثُرَ تَكْبِيرُ الْمَلَائِكَةِ فِي جَوَانِبِ الْعَسْكَرِ حَتَّى كَانَ سَيِّدُ كُلِّ قَوْمٍ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: يَا بَنِي فُلَانٍ هَلُمَّ إِلَيَّ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا قَالَ لَهُمْ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تَعْمَلُونَ» بالفوقية، أي: بما تعملون أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ تَرْتِيبِ الْحَرْبِ، وَحَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَاسْتِنْصَارِكُمْ بِهِ، وَتَوَكُّلِكُمْ عَلَيْهِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالتَّحْتِيَّةِ، أَيْ: بِمَا يَعْمَلُهُ الْكُفَّارُ مِنَ الْعِنَادِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَالتَّحَزُّبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِمْ من كلّ جهة إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ إِذْ هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا بَدَلٌ مِنْ إِذِ الْأُولَى، وَالْعَامِلُ فِي هَذِهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي تِلْكَ، وَقِيلَ:
مَنْصُوبَةٌ بِمَحْذُوفٍ، هُوَ: اذْكُرْ، وَمَعْنَى مِنْ فَوْقِكُمْ: مِنْ أَعْلَى الْوَادِي، وَهُوَ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ هُمْ غَطَفَانُ، وَسَيِّدُهُمْ: عُيَيْنَةُ بْنُ حصن، وهوازن، وسيدهم: عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، وَبَنُو النَّضِيرِ، وَمَعْنَى وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ مِنْ نَاحِيَةِ مَكَّةَ، وَهُمْ قُرَيْشٌ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَحَابِيشِ، وَسَيِّدُهُمْ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَجَاءَ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، وَمَعَهُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ الْيَهُودِيُّ فِي يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ وَجْهِ الْخَنْدَقِ، وَمَعَهُمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَجُمْلَةُ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَيْ: مَالَتْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمْ تَنْظُرْ إِلَّا إِلَى عَدُوِّهَا مُقْبِلًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقِيلَ:
شَخَصَتْ دَهَشًا مِنْ فَرْطِ الْهَوْلِ وَالْحَيْرَةِ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ جَمْعُ حَنْجَرَةٍ، وَهِيَ جَوْفُ الْحُلْقُومِ، أَيِ: ارْتَفَعَتِ الْقُلُوبُ عَنْ مَكَانِهَا، وَوَصَلَتْ مِنَ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ إِلَى الْحَنَاجِرِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ ضَاقَ الْحُلْقُومُ عَنْهَا، وَهُوَ الَّذِي نِهَايَتُهُ الحنجرة لخرجت، كما قَالَ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ المعهود فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنْ لَمْ تَرْتَفِعِ الْقُلُوبُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلَا خَرَجَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا، وَلَكِنَّهُ مَثَلٌ فِي اضْطِرَابِهَا وَجُبْنِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ:
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ جَبُنُوا، وَجَزِعَ أَكْثَرُهُمْ، وَسَبِيلُ الْجَبَانِ إِذَا اشْتَدَّ خَوْفُهُ أَنْ تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ، فَإِذَا انْتَفَخَتِ الرِّئَةُ ارْتَفَعَ الْقَلْبُ إِلَى الْحَنْجَرَةِ، وَلِهَذَا يقال للجبان: انتفخ سحره وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أَيِ: الظُّنُونَ الْمُخْتَلِفَةَ، فَبَعْضُهُمْ ظَنَّ النَّصْرَ، وَرَجَا الظَّفَرَ، وَبَعْضُهُمْ ظَنَّ خِلَافَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: ظنّ المنافقون أن يُسْتَأْصَلُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ، وَظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُ يُنْصَرُ. وَقِيلَ: الْآيَةُ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ، وَالْأَوْلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ. فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا فِي الْوَاقِعِ أَوْ مُنَافِقًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute