نَقَلَهَا عَنِ الْعَرَبِ مِنْهَا أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ الْعَرَبِ يَا مُهْتَمُّ بِأَمْرِنَا لَا تَهْتَمَّ، وَأَنْشَدَ:
يَا دَارُ غَيَّرَهَا الْبِلَى تَغْيِيرًا قَالَ النَّحَّاسُ: وَفِي هَذَا إِبْطَالُ بَابِ النِّدَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِ. قال: وَتَقْدِيرُ مَا ذَكَرَهُ: يَا أَيُّهَا الْمُهْتَمُّ لَا تَهْتَمَّ بِأَمْرِنَا، وَتَقْدِيرُ الْبَيْتِ: يَا أَيَّتُهَا الدَّارُ. وَحَقِيقَةُ الْحَسْرَةِ أَنْ يَلْحَقَ الْإِنْسَانَ مِنَ النَّدَمِ مَا يَصِيرُ بِهِ حَسِيرًا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
الْمَعْنَى يَا حَسْرَةً مِنَ الْعِبَادِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَنَدُّمًا وَتَلَهُّفًا فِي اسْتِهْزَائِهِمْ بِرُسُلِ اللَّهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ «يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ» عَلَى الْإِضَافَةِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أُبَيٍّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّهَا حَسْرَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْكُفَّارِ حِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ. وَقِيلَ: هِيَ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ إِنَّ الْقَائِلَ: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ هُمُ الْكُفَّارُ الْمُكَذِّبُونَ، وَالْعُبَّادُ: الرُّسُلُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ تَحَسَّرُوا عَلَى قَتْلِهِمْ وَتَمَنَّوُا الْإِيمَانَ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّحَسُّرَ عَلَيْهِمْ هُوَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ لِتَعْظِيمِ مَا جَنَوْهُ وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ يَا حَسْرَةً بِسُكُونِ الْهَاءِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَقُرِئَ «يَا حَسْرَتَا» كَمَا قُرِئَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، وَجُمْلَةُ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ سَبَبُ التَّحَسُّرِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ عَجِبَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَالِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَعْتَبِرُوا بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ فَقَالَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَيْ: أَلَمْ يَعْلَمُوا كَثْرَةَ مَنْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَجُمْلَةُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ بَدَلٌ مِنْ كَمْ أَهْلَكْنَا عَلَى الْمَعْنَى. قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ بَدَلٌ مِنْ كَمْ، وَهِيَ الْخَبَرِيَّةُ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُبْدَلَ مِنْهَا مَا لَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الْقُرُونَ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِ (يَرَوْا) ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى هَذَا بِأَنَّهُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَلَمْ يَرَوْا مَنْ أَهْلَكْنَا» وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ تَكُونَ كَمْ فِي مَوْضِعِ نصب بأهلكنا.
قَالَ النَّحَّاسُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ مُحَالٌ، لِأَنَّ كَمْ لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا اسْتِفْهَامٌ، وَمُحَالٌ أَنْ يَدْخُلَ الِاسْتِفْهَامُ فِي حَيِّزِ مَا قَبْلَهُ، وَكَذَا حُكْمُهَا إِذَا كَانَتْ خَبَرًا، وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ قَدْ أَوْمَأَ إِلَى بَعْضِ هَذَا فَجَعَلَ أَنَّهُمْ بَدَلًا مِنْ كَمْ، وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ الْمُبَرِّدُ أَشَدَّ رَدٍّ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أَيْ: مُحْضَرُونَ لَدَيْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْجَزَاءِ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ لَمَّا بِتَشْدِيدِهَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: من شدّد جعل لما بمعنى إلا، وإن بِمَعْنَى مَا: أَيْ مَا كُلٌّ إِلَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ، وَمَعْنَى جَمِيعٌ مَجْمُوعُونَ، فَهُوَ فَعِيلٌ بمعنى مفعول، ولدينا ظرف له، وأما على قراءة التخفيف فإن هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَمَا بَعْدَهَا مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَتَنْوِينُ كُلٌّ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَمَا بَعْدَهُ الْخَبَرُ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ المخففة والنافية. قال أبو عبيدة: وما عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: وَإِنْ كُلٌّ لَجَمِيعٌ. وَقِيلَ مَعْنَى مُحْضَرُونَ مُعَذَّبُونَ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ مِنَ الْإِحْضَارِ لِلْحِسَابِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْبُرْهَانَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ مَعَ تَعْدَادِ النِّعَمِ وَتَذْكِيرِهَا فَقَالَ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ فآية: خبر مقدّم، وتنكيرها للتفخيم، ولهم صفتها، أو متعلقة بآية لأنها بمعنى علامة، والأرض: مُبْتَدَأٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آيَةٌ مُبْتَدَأً لِكَوْنِهَا قَدْ تَخَصَّصَتْ بِالصِّفَةِ، وَمَا بَعْدَهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute