الْخَبَرُ. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ «الْمَيِّتَةَ» بِالتَّشْدِيدِ وَخَفَّفَهَا الْبَاقُونَ، وَجُمْلَةُ أَحْيَيْناها مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِكَيْفِيَّةِ كَوْنِهَا آيَةً، وَقِيلَ هِيَ صِفَةٌ لِلْأَرْضِ فَنَبَّهَهُمُ اللَّهُ بِهَذَا عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَذَكَّرَهُمْ نِعَمَهُ وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْيَا الْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ: وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْحُبُوبَ الَّتِي يَأْكُلُونَهَا وَيَتَغَذَّوْنَ بِهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَهُوَ مَا يَقْتَاتُونَهُ مِنَ الْحُبُوبِ، وَتَقْدِيمُ مِنْهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحَبَّ مُعْظَمُ مَا يُؤْكَلُ وَأَكْثَرُ مَا يَقُومُ بِهِ الْمَعَاشُ وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أَيْ: جَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ جَنَّاتٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ، وَخَصَّصَهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَعْلَى الثِّمَارِ وَأَنْفَعُهَا لِلْعِبَادِ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ أَيْ: فَجَّرْنَا فِي الْأَرْضِ بَعْضًا مِنَ الْعُيُونِ، فَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مقامه، أو المفعول العيون، ومن مَزِيدَةٌ عَلَى رَأْيِ مَنْ جَوَّزَ زِيَادَتَهَا فِي الْإِثْبَاتِ وَهُوَ الْأَخْفَشُ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْعُيُونِ عُيُونُ الْمَاءِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ فَجَّرْنا بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْفَجْرُ وَالتَّفْجِيرُ: كَالْفَتْحِ وَالتَّفْتِيحِ، لَفْظًا وَمَعْنًى، وَاللَّامُ فِي لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ متعلق بجعلنا، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ ثَمَرِهِ يَعُودُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالنَّخِيلِ، وَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَاءِ الْعُيُونِ لِأَنَّ الثَّمَرَ مِنْهُ، قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثَمَرِهِ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهِمَا، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِضَمِّ الثَّاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي الْأَنْعَامِ، وَقَوْلُهُ: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى ثَمَرِهِ، أَيْ: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَيَأْكُلُوا مِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ كَالْعَصِيرِ وَالدِّبْسِ وَنَحْوِهِمَا، وَكَذَلِكَ مَا غَرَسُوهُ وَحَفَرُوهُ عَلَى أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ، وَقِيلَ: هِيَ نَافِيَةٌ وَالْمَعْنَى: لَمْ يَعْمَلُوهُ، بَلِ الْعَامِلُ لَهُ هُوَ اللَّهُ، أَيْ: وَجَدُوهَا مَعْمُولَةً وَلَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ عَمِلَتْهُ وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ «عَمِلَتْ» بِحَذْفِ الضَّمِيرِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ:
أَفَلا يَشْكُرُونَ للتقريع والتوبيخ لهم بعدم شُكْرِهِمْ لِلنِّعَمِ، وَجُمْلَةُ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَنْزِيهِهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ تَرْكِ الشُّكْرِ لِنِعَمِهِ الْمَذْكُورَةِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ إِخْلَالِهِمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُسْتَوْفًى فِي مَعْنَى سُبْحَانَ، وَهُوَ فِي تَقْدِيرِ الْأَمْرِ لِلْعِبَادِ بِأَنْ يُنَزِّهُوهُ عَمًّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْأَزْوَاجُ: الْأَنْوَاعُ وَالْأَصْنَافُ، لِأَنَّ كُلَّ صِنْفٍ مُخْتَلِفُ الألوان والطعوم والأشكال، ومِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ بَيَانٌ لِلْأَزْوَاجِ، وَالْمُرَادُ كُلُّ مَا يَنْبُتُ فِيهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ: خَلَقَ الْأَزْوَاجَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهُمُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ مِنْ أَصْنَافِ خَلْقِهِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ الْكَلَامُ فِي هَذَا كَمَا قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَالْمَعْنَى:
أَنَّ ذَلِكَ عَلَامَةٌ دَالَّةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَوُجُوبِ إِلَهِيَّتِهِ، وَالسَّلْخُ: الْكَشْطُ وَالنَّزْعُ، يُقَالُ سَلَخَهُ اللَّهُ مِنْ دينه، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْإِخْرَاجِ، فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ ذَهَابَ الضَّوْءِ وَمَجِيءَ الظُّلْمَةِ كَالسَّلْخِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ بَلِيغَةٌ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أَيْ: دَاخِلُونَ فِي الظَّلَامِ مُفَاجَأَةً وَبَغْتَةً، يُقَالُ أَظْلَمْنَا: أَيْ دَخَلْنَا فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ، وَأَظْهَرْنَا دَخْلَنَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَكَذَلِكَ أَصْبَحْنَا وَأَمْسَيْنَا، وَقِيلَ «مِنْهُ» بِمَعْنَى عَنْهُ، وَالْمَعْنَى:
نَسْلَخُ عَنْهُ ضِيَاءَ النَّهَارِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَرْمِي بِالنَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ فَيَأْتِي بِالظُّلْمَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ هِيَ الظُّلْمَةُ وَالنَّهَارُ دَاخِلٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ سُلِخَ النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ: كُشِطَ وَأُزِيلَ فَتَظْهَرُ الظُّلْمَةُ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute