مَحْشُورَةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الطَّيْرِ، أَيْ: وَسَخَّرْنَا الطَّيْرَ حَالَ كَوْنِهَا مَحْشُورَةً، أَيْ: مَجْمُوعَةً إِلَيْهِ تُسَبِّحُ اللَّهَ مَعَهُ، قِيلَ: كَانَتْ تَجْمَعُهَا إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: كَانَتْ تَجْمَعُهَا الرِّيحُ كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ دَاوُدَ وَالْجِبَالِ وَالطَّيْرِ رَجَّاعٌ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وقيل: الضمير لداود، أَيْ: لِأَجْلِ تَسْبِيحِ دَاوُدَ مُسَبِّحٌ، فَوَضَعَ أَوَّابٌ مَوْضِعَ مُسَبِّحٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَوَّابَ: الْكَثِيرُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَشَدَدْنا مُلْكَهُ قَوَّيْنَاهُ وَثَبَّتْنَاهُ بِالنَّصْرِ فِي الْمَوَاطِنِ عَلَى أَعْدَائِهِ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ مِنْهُ فِي قُلُوبِهِمْ. وَقِيلَ: بِكَثْرَةِ الْجُنُودِ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ الْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ: النُّبُوَّةُ وَالْمَعْرِفَةُ بِكُلِّ مَا يَحْكُمُ بِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَدْلُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْعِلْمُ بِكِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ شريح: السنة. والمراد بفصل الْخِطَابِ الْفَصْلُ فِي الْقَضَاءِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِ أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ: الشُّهُودُ وَالْإِيمَانُ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ بِهَذَا. وَقِيلَ: هُوَ الْإِيجَازُ بِجَعْلِ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ، وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ لَمَّا مَدَحَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِذِكْرِ هذه القصة الواقعة له لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْعَجِيبَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ مَلَكَيْنِ، جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لِيُنَبِّهَهُ عَلَى التَّوْبَةِ، فَأَتَيَاهُ وَهُوَ فِي مِحْرَابِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَصْمِ هَاهُنَا الْمَلَكَانِ، وَالْخَصْمُ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ. وَمَعْنَى تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أَتَوْهُ مِنْ أَعْلَى سُورِهِ وَنَزَلُوا إِلَيْهِ، وَالسُّورُ: الْحَائِطُ الْمُرْتَفِعُ، وَجَاءَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِي تَسَوَّرُوا مَعَ كَوْنِهِمُ اثْنَيْنِ نَظَرًا إِلَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُ الْخَصْمِ مِنَ الْجَمْعِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشاعر:
وخصم غضاب ينفضون لِحَاهُمُ ... كَنَفْضِ الْبَرَاذِينِ الْعِرَابِ الْمَخَالِيَا
وَالْمِحْرَابُ: الْغُرْفَةُ لِأَنَّهُمْ تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِيهَا، كَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهُ صَدْرُ الْمَجْلِسِ وَمِنْهُ مِحْرَابُ الْمَسْجِدِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا كَانَا إِنْسِيَّيْنِ وَلَمْ يَكُونَا مَلَكَيْنِ، وَالْعَامِلُ فِي «إِذْ» فِي قَوْلِهِ: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ النبأ: هَلْ أَتَاكَ الْخَبَرُ الْوَاقِعُ فِي وَقْتِ تَسَوُّرِهِمْ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَكِّيٌّ وَأَبُو الْبَقَاءِ. وَقِيلَ:
الْعَامِلُ فِيهِ أَتَاكَ. وَقِيلَ: مَعْمُولٌ لِلْخَصْمِ. وقيل: معمول المحذوف، أَيْ: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ تَحَاكُمِ الْخَصْمِ. وَقِيلَ:
هو معمول لتسوروا. وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ إِنْ أَحَدَ الظَّرْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِمَعْنَى لَمَّا فَفَزِعَ مِنْهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا أَتَيَاهُ لَيْلًا فِي غَيْرِ وَقْتِ دُخُولِ الْخُصُومِ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَمْ يَدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ الناس. قال ابن العربي: وَكَانَ مِحْرَابُ دَاوُدَ مِنَ الِامْتِنَاعِ بِالِارْتِفَاعِ بِحَيْثُ لَا يَرْتَقِي إِلَيْهِ آدَمِيٌّ بِحِيلَةٍ، وَجُمْلَةُ: قالُوا لَا تَخَفْ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالُوا لِدَاوُدَ لَمَّا فَزِعَ مِنْهُمْ؟
وَارْتِفَاعُ خَصْمانِ. عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: نَحْنُ خَصْمَانِ، وَجَاءَ فِيمَا سَبَقَ بِلَفْظِ الجمع، وهنا بلفظ التثنية لما ذكرنا مِنْ أَنَّ لَفْظَ الْخَصْمِ يَحْتَمِلُ الْمُفْرَدَ، وَالْمُثَنَّى، وَالْمَجْمُوعَ، فَالْكُلُّ جَائِزٌ. قَالَ الْخَلِيلُ:
هُوَ كَمَا تَقُولُ نَحْنُ فَعَلْنَا كَذَا: إِذَا كُنْتُمَا اثْنَيْنِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: جَمَعَ لَمَّا كَانَ خَبَرًا فَلَمَّا انْقَضَى الْخَبَرُ وَجَاءَتِ الْمُخَاطَبَةُ أَخْبَرَ الِاثْنَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا، فَقَالَا: خَصْمَانِ، وَقَوْلُهُ: بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، وَعَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ لَا يَبْغِيَانِ. ثُمَّ طَلَبَا مِنْهُ أَنْ يَحْكُمَ بينهما بالحق
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute