ارْتِفَاعُ كِتَابٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وأنزلناه إليك صفة له، ومبارك: خَبَرٌ ثَانٍ لِلْمُبْتَدَأِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً أُخْرَى لِكِتَابٍ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْوَصْفِ الصَّرِيحِ عَنْ غَيْرِ الصَّرِيحِ، وَقَدْ جَوَّزَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ، وَالتَّقْدِيرُ: الْقُرْآنُ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ كَثِيرُ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ. وَقُرِئَ «مُبَارَكًا» عَلَى الْحَالِ وَقَوْلُهُ: لِيَدَّبَّرُوا أصله ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال وهو متعلق بأنزلناه. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ، لَا لِمُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ بِدُونِ تَدَبُّرٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لِيَدَّبَّرُوا» بِالْإِدْغَامِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ «لِتَدَبَّرُوا» بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْأَصْلُ لِتَتَدَبَّرُوا بِتَاءَيْنِ فَحَذَفَ إِحْدَاهُمَا تخفيفا وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أَيْ: لِيَتَّعِظَ أَهْلُ الْعُقُولِ، وَالْأَلْبَابُ جَمْعُ لُبٍّ: وَهُوَ الْعَقْلُ وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِهِ عَلَى دَاوُدَ أَنَّهُ وَهَبَ لَهُ سُلَيْمَانَ وَلَدًا، ثُمَّ مَدَحَ سُلَيْمَانَ فَقَالَ: نِعْمَ الْعَبْدُ وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: نِعْمَ الْعَبْدُ سُلَيْمَانُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَدْحَ هُنَا بِقَوْلِهِ: نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ لِدَاوُدَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ أَوَّابٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْمَدْحِ، وَالْأَوَّابُ:
الرَّجَّاعُ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَالظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ اذْكُرْ، أَيِ: اذْكُرْ مَا صَدَرَ عَنْهُ وَقْتَ عَرْضِ الصَّافِنَاتِ الْجِيَادِ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ وقيل: هو متعلق بنعم، وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُتَصَرِّفٍ لَا وَجْهَ لتقييده بذلك الوقت، وقيل: متعلق بأواب، وَلَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِ كَوْنِهِ أَوَّابًا بِذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْعَشِيُّ مِنَ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، وَالصَّافِنَاتُ جَمْعُ صَافِنٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ اللغة في معناه، فقال القتبي والفراء: الصافن في كلام العرب الواقف مِنَ الْخَيْلِ أَوْ غَيْرِهَا، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ صُفُونًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» أَيْ: يُدِيمُونَ الْقِيَامَ لَهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّابِغَةِ:
لَنَا قُبَّةٌ مَضْرُوبَةٌ بِفِنَائِهَا ... عِتَاقُ الْمَهَارِي وَالْجِيَادُ الصَّوَافِنُ
وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا فَإِنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ مُصَادَرَةٌ لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي الصَّافِنِ مَاذَا هُوَ؟ وَقَالَ الزَّجَّاجُ هُوَ الَّذِي يَقِفُ عَلَى إِحْدَى الْيَدَيْنِ وَيَرْفَعُ الْأُخْرَى وَيَجْعَلُ عَلَى الْأَرْضِ طَرَفَ الْحَافِرِ مِنْهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُومُ عَلَى ثَلَاثٍ وَهِيَ الرِّجْلَانِ وَإِحْدَى الْيَدَيْنِ، وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِإِحْدَى رِجْلَيْهِ وَهِيَ عَلَامَةُ الْفَرَاهَةِ، وَأَنْشَدَ الزَّجَّاجُ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّهُ ... مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيَرُ
وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
تَرَكْنَا الْخَيْلَ عَاكِفَةً عَلَيْهِ ... مُقَلَّدَةً أَعِنَّتَهَا صُفُونًا
فَإِنَّ قَوْلَهُ صُفُونًا لَا بُدَّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مُجَرَّدِ الْقِيَامِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْقِيَامِ قَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: عَاكِفَةً عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الصَّافِنُ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ يَدَيْهِ وَيُسَوِّيهُمَا، وَأَمَّا الَّذِي يَقِفُ عَلَى سُنْبُكِهِ فاسمه المتخيم،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute