للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى تَبَاعُدِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ الْجِهَارَ أَغْلَظُ مِنَ الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ مِنْ أَحَدِهِمَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنِّي بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْحَرَمِيُّونَ بِفَتْحِهَا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أَيْ:

سَلُوهُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ ذُنُوبِكُمُ السَّابِقَةِ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أَيْ: كَثِيرَ الْمَغْفِرَةِ لِلْمُذْنِبِينَ، وَقِيلَ:

مَعْنَى اسْتَغْفِرُوا: تُوبُوا عَنِ الْكُفْرِ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا لِلتَّائِبِينَ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أَيْ: يُرْسِلْ مَاءَ السَّمَاءِ عَلَيْكُمْ، فَفِيهِ إِضْمَارٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ الْمَطَرُ، كَمَا فِي قَوْلُ الشَّاعِرِ «١» :

إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غضابا

والمدرارا: الدُّرُورُ، وَهُوَ التَّحَلُّبُ بِالْمَطَرِ، وَانْتِصَابُهُ إِمَّا عَلَى الْحَالِ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَمْ يُؤَنَّثْ لِأَنَّ مِفْعَالًا لَا يُؤَنَّثُ تَقُولُ: امْرَأَةٌ مِئْنَاثٌ وَمِذْكَارٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِرْسَالًا مِدْرَارًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَجُزِمَ يُرْسِلْ لِكَوْنِهِ جَوَابَ الْأَمْرِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَطَرِ وَحُصُولِ أَنْوَاعِ الْأَرْزَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ يَعْنِي بَسَاتِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً جَارِيَةً. قَالَ عَطَاءٌ: الْمَعْنَى يُكْثِرُ أَمْوَالَكُمْ وَأَوَّلَادَكُمْ. أَعْلَمَهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ يَجْمَعُ لَهُمْ مَعَ الْحَظِّ الْوَافِرِ فِي الْآخِرَةِ الْخِصْبَ وَالْغِنَى فِي الدُّنْيَا. مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً أَيْ: أَيُّ عُذْرٍ لَكُمْ فِي تَرْكِ الرجاء، والرجاء هنا بمعنى الخوف، أي: مالكم لَا تَخَافُونَ اللَّهَ، وَالْوَقَارُ: الْعَظَمَةُ مِنَ التَّوْقِيرِ وَهُوَ التَّعْظِيمُ، وَالْمَعْنَى لَا تَخَافُونَ حَقَّ عَظَمَتِهِ فتوحّدونه وتطيعونه، ولا تَرْجُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ فِي «لَكُمْ» ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ:

إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةَ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مَا لَكَمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ ثَوَابًا، وَلَا تَخَافُونَ مِنْهُ عِقَابًا.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مَا لَكَمْ لَا تُبَالُونَ لِلَّهِ عظمته. قَالَ قُطْرُبٌ: هَذِهِ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ، وَهُذَيْلٌ وَخُزَاعَةُ ومضر يقولون: لم أرج: لم أبال. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا لَكَمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ عَاقِبَةَ الْإِيمَانِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مَا لَكَمْ لَا تَرْجُونَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ أَنْ يُثِيبَكُمْ عَلَى تَوْقِيرِكُمْ خَيْرًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَا لَكَمْ لَا تُؤَدُّونَ لِلَّهِ طَاعَةً.

وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا لَكَمْ لَا تَعْرِفُونَ لِلَّهِ حَقًّا وَلَا تَشْكُرُونَ لَهُ نِعْمَةً. وَجُمْلَةُ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ خَلَقَكُمْ عَلَى أَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ: نُطْفَةٍ، ثُمَّ مُضْغَةٍ، ثُمَّ عَلَقَةٍ إِلَى تَمَامِ الْخَلْقِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالطَّوْرُ فِي اللُّغَةِ: الْمَرَّةُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الطَّوْرُ الْحَالُ، وَجَمْعُهُ أَطْوَارٌ، وَقِيلَ: أَطْوَارًا صِبْيَانًا ثُمَّ شُبَّانًا ثُمَّ شُيُوخًا، وَقِيلَ: الْأَطْوَارُ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ تُقَصِّرُونَ فِي تَوْقِيرِ مَنْ خَلَقَكُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَطْوَارِ الْبَدِيعَةِ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً الْخِطَابُ لِمَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَالْمُرَادُ الِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وبديع


(١) . هو معاوية بن مالك، معوّد الحكماء.

<<  <  ج: ص:  >  >>